الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكاية مكتبة

صبحي حديدي

2004 / 1 / 13
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


في قلب "الحيّ اللاتيني"، الذي كان على الدوام بمثابة الرمز الأبرز للجانب البوهيمي والطليعي من الحياة الثقافية في العاصمة الفرنسية باريس، وعلى مبعدة أمتار من نهر السين وكنيسة نوتردام الشهيرة، ثمة مكتبة لا تكاد تُرى، والأحرى القول إنّ أحداً لا يقصدها إلا إذا كان قد سمع بها مسبقاً، وجاء خصيصاً لزيارتها. وهؤلاء، للإنصاف، كُثُرٌ لأنّ المكتبة مصنّفة في معظم الأدبيات السياحية التي تصف معالم باريس التاريخية!
ولا غرابة في الأمر لأنّ لهذه المكتبة، Shakespaerae and Company، تاريخها العريق والحافل والطريف، ولأنها شهدت عدداً من الأحداث الأدبية الفاصلة، التي تركـــــت عميــــــق الأثر في التاريخ الأدبي العالمي بأسره، وليس تاريخ فرنســا أو أوروبا فحسب. وبادىء ذي بدء، هذه مكتبة من نوع خاصّ للغاية. صحيح أنها تبيــــع الكتب (باللغة الإنكليزية أساساً، ولكن بكلّ لغات الكون أيضاً)، ولكنها أيضاً تشتري الكتــــب، بل تعيد تبديل ما باعت: أنت اليوم اشتريت كتاباً، جديداً أو قديماً، والمكتبة تبيـــــعه لك بعد وضع خاتمها المميّز على الصفحة الأولى الداخلية، الأمر الذي يعطيك الحقّ في العودة متى شئتَ لاستبداله بما يعادل قيمته، أو لبيــــــعه! وصحيح أنها مكتبة بالمعنى التجاري هذا، ولكنها مكتبة عامة أيضاً وبكلّ معنى: تستطيع الجلوس ســـــاعات للقراءة، وفي وسـعك أن تستعير، وتعير!
تاريخ المكتبة لا يعود إلى قرون مضت، كما قد يظنّ المرء. لقد افتتحتها، في سنة 1921، الأمريكية سيلفيا وودبريدج بيش (1887 ـ 1962)، التي جاءت إلى باريس مع أبيها راعي الكنيسة الأمريكية في العاصمة الفرنسية. وفي البدء كانت المكتبة تقع في شارع الأوديون، غير بعيد عن الموقع الحالي، واضطرّت بيش إلى إقفالها إثر حكاية جديرة بالتدوين. ففي عام 1941، حين كانت باريس واقعة تحت الاحتلال النازي، جاء ضابط ألماني وطلب شراء نسخة من رواية جيمس جويس "يقظة فينيغانز"، فرفضت بيش بيعه ما أراد. بالطبع، استشاط الضابط غضباً، وعاد بعد ساعتين على رأس قوّة ضخمة لإقفال المكتبة، لكنه... لم يجد المكتبة ذاتها، ببساطة! خلال الساعتين، كانت بيش ومعها نفر من الأدباء والمتطوعين، قد نقلوا الكتب بأكملها، وطلسوا اليافطة، وأغلقوا المكتبة بأنفسهم.
تتمة الحكاية أنّ بيش اعتُقلت، ولم تفتح المكتبة ثانية إلا سنة 1951، في مكان آخر (هو الموقع الحالي)، وبمبادرة من أمريكي آخر يدعي جورج ويتمان، هو الذي يديرها حتى اليوم. وكان ويتمان قد استأذن بيش في أن يطلق الاسم العتيق ذاته على المكتبة الجديدة. وكما كان الموقع القديم في العشرينيات محطة دائمة لأمثال جورج برنارد شو وإرنست همنغواي وسكوت فتزجيرالد وإزرا باوند وجرترود شتاين وبول فاليري وأندريه جيد وبالطبع جيمس جويس، فإنه في الخمسينيات بات المحطة المفضّلة لممثّلي الـ Beat Generation، من أمثال وليام بوروز وألن غنسبرغ وغريغوري كورسو، بالإضافة إلى هنري ميللر ولورانس داريل وعشرات الآخرين.
ولعلّ مأثرة هذه المكتبة، وسيلفيا بيش شخصياً للإنصاف، أنها كانت ناشرة العمل الروائي الذي يتفق الكثيرون علي أنه قد يكون العمل الأعظم في تاريخ الرواية الحديثة، وأقصد تحفة جويس الشهيرة "عوليس". وكانت الطبعة الأولى من هذه الرواية قد صدرت في العام  1922 عن هذه المكتبة، بعد أن عزّ علي جويس العثور علي ناشر آخر، لا في أوروبا ولا في أمريكا. وفي فصل بعنوان "استثمارات استهلاكية"، من كتابه الهامّ "مؤسسات الحداثة: النُخب الأدبية والثقافة العامة"، يروي لويس رايني حكاية صدور هذه الطبعة، فيقدّم تفصيلاً بالغ الدلالة حول الجانب المادّي ـ الاستثماري في حركة الحداثة الأدبية والفنية آنذاك.
الطبعة الأولى تلك، كانت 1000 نسخة فاخرة Deluxe وُزّعت عن طريق الإشتراك المسبق وليس الشراء المباشر، وكان سعرها باهظاً تماماً بمقاييس ذلك الزمان. وسجلاّت المكتبة عن مبيعات الرواية تشير إلى مشتركين من أمثال أرنولد بينيت، ألدوس هكسلي، إديث ستويل، فرجينيا وولف، ونستون تشرشل، هـ. ج. ولز، و. ب. ييتس، شروود أندرسون، جونا بارنز، وليام كارلوس وليامز، هارت كرين، جون دوس باسوس. ما لا تشير إليه السجلات هو حسابات المبيع الشعبي للرواية، الأمر الذي يُعنى لورنس رايني بمتابعته جوهرياً، إذْ نكتشف أنّ الجمهور العريض لم يكن البتة في ذهن الناشرة، وأنّ اهتمامها انصبّ أوّلاً على نخبة محدودة من "كبار القرّاء والنقّاد"، ثم على نخبة أخرى غير متوقعة: أصحاب رؤوس الأموال المهتمين بالإستثمار في ميدان نشر الأدب الحداثي!
ويبقي تفصيل أخير، لعلّه يخدم اليوم في تذكير أمريكا ببعض ما لها من سوابق في ميادين انتهاك حقّ التعبير، هو أنّ "عوليس" مُنعت في الولايات المتحدة ــ مثل معظم ديمقراطيات أوروبا في الواقع ــ بوصفها "أدب دعارة" و"بورنوغرافيا". وكان إرنست همنغواي هو الذي تولى مسؤولية إدخال حفنة من النُسخ، تهريباً... طيّ بنطاله الشهير الفضفاض!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تزايد الطلب على الشوكولا في روسيا رغم ارتفاع سعرها لعدة أضعا


.. 5 شهداء بينهم 3 أطفال في قصف إسرائيلي على حي الزرقاء جنوب مد




.. طائرة -كواد كابتر- تحلق بالقرب من منازل المواطنين بمدينة غزة


.. مواطنون أتراك يُهاجمون منازل السوريين وممتلكاتهم في أنطاليا




.. محامي ترمب السابق يخسر رخصة المحاماة بعد اتهامه تصريحات مضلل