الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجريمة والعتاب

طارق قديس

2008 / 5 / 29
الادب والفن


تسمر أمام شاشة الحاسوب ، أمعن النظر في الرسائل القادمة إلى بريده الإلكتروني ، أخذ يقرأها وهو يبتسم تارة ، ويتجهم تارة أخرى .

أعاد قراءة الردود العشرة التي استلمها من أصدقائه ، وذلك على سؤالٍ واحد قد وجهه إليهم دون أن يغير في نصه شيئاً ، وهو : ما هو أخطر قرار يمكن أن تتخذه في حياتك ؟

كانت علاقته بأصدقائه متفاوتة ، فمنهم من هو على علاقة دائمة معه ، ومنهم من لم يره منذ حفل تخرج الجامعة ، ومنهم من رحل إلى الخارج فانقطت أخباره ، ومنهم من يراه بين الحين والآخر في أحد المقاهي.

أما أحوالهم الخاصة ، فهي أشد تفاوتاً مما يمكن أن يتصور أي إنسان ، ففيهم الطبيب النفساني ، ورئيس قسم في أحد البنوك ، و المدرس ، والوزير ، والضابط ، وفيهم من يعتاش بإيجارات أملاكه الخاصة فقط ، وفيهم مدقق الحسابات ، والمهندس ، والطيار ، وفيهم من هو على شفير التقاعد !

قرأ الردود العشرة بتركيز ، بدأ بالطيار ، وكانت إجابته :
( أهلاً يا صديقي . أمازلت على قيد الحياة ؟ لم أسمع أخبارك منذ مدة .. بخصوص سؤالك ، الجواب بسيط ، إن أخطر قرار يمكن أن أتخذه في حياتي هو أستقيل من عملي ، فهو عمل مميز جداً .. ).

انتقل إلى المصرفي ، لم يُجِبْهُ على السؤال ، تركه ، وقرأ ما كتبه المدرس :
(السؤال صعب ، فأخطر قرار يمكن أن أكون قد اتخذته فعلاً . على العموم فأي شيء سيأتي لن يكون أخطر من قرار الزواج !).

ابتسم بسخرية ، نظر إلى خاتم الزواج في إصبعه ، أخذ يحركه بإبهامه قليلاً ، ثم عاد إلى القراءة.

لقد كان التالي هو الوزير ، وكان رأيه أن قبوله لمنصبه هو الأخطر في حياته .

تركه ، انتقل إلى المهندس ، كانت إجابته معمارية بحتة ، لكنَّ رَدَّ مدقق الحسابات لم يكن أفضل منه ، وكذلك صاحب الأملاك.

ضغط على زر النزول في لوحة المفاتيح ، نزل إلى رسالة الضابط ، كانت تحوي سطراً واحداً فقط :
( ما هذا السؤال الغريب ! وما أدراني أنا؟ هل تحسبني فيلسوف زماني ؟ ).

لم يقف عنده كثيراً ، فانتقل إلى الطبيب النفساني ، استوقفته إجابته للحظة : ( إن أخطر قرار يمكن أن تتخذه يا صديقي ، هو أن تسير في طريق لا يكون الله موجوداً في نهايته ! ).

طأطأ رأسه قليلاً ثم تابع قراءته . لقد بقيت رسالة واحدة ، إنها رسالة صديقه المتقاعد ، كانت قصيرة كالأخريات ، لكنها لفتت انتباهه أكثر من الجميع، وقد كتب فيها :
( يا صديقي ، سؤالك هو السؤال الأهم الذي سألته في حياتي ، وجوابه ليس بالأمر السهل ، رغم بساطته ... بالنسبة لي ، القرار الأخطر في الحياة ، هو أن تكتشف في لحظة ما أنك إنسانٌ بلا طموح ، ولا هدف لديك ، لكن الأسوأ من ذلك هو أن تقرر الاستمرار في السير بذات الاتجاه !).

تأمل رسالته للمرة الثانية ، ثم ابتعد عن الحاسوب ، وأدار ظهره ناحية النافذة المطلة من مكتبه في الطابق الرابع على الشارع ، وأخذ ينظر إلى السيارات عند إشارة المرور.

كان ينظر بعينيه ، إلا ان أفكاره كانت في مكانٍ آخر ، كان يفكر في الإجابات كلها ، ويقول في نفسه : ( يا للسخرية ! لقد أرسلت إلى أصدقائي القدامى والمقربين مجرد سؤال ، وكان لكلٍّ منهم جواب مختلف عن الآخرين ، جوابٌ مختلف حتى عن جوابي أنا ! ظننت أنه بإمكانهم مساعدتي في الرد على هذا السؤال ، واتخاذ قرارٍ مهم ، لكن يبدو أن العكس هو الصحيح ! .. فما هو الحلُّ ؟ ما هو الحلُّ يا إلهي؟).

قال هذا ثم استفاق من أفكاره على صوت حارس المبنى . لقد أتى ليتأكد من أن اليوم هو آخر يوم له في المكتب ، وأنه قد اتخذ قرار أغلاقه نهائياً ، فلما أكد له النبأ ، عاد الحارس أدراجه ، وعاد هو إلى حيث كان.

بسرعة رمق الهاتف النقال المحطم على الأرض ، لقد رماه منذ قليل إلى الأرض ، فتحطم إلى أجزاء ، بعد أن طلبت زوجته الطلاق منه، ثم نظر في اتجاه آخر ، نحو الهاتف الأرضي المقلوب على طاولة المكتب ، فيما سماعته تتدلى إلى القاع ، وشريطه السلكي منزوعٌ من الحائط الأيمن ، وذلك بعد مناقشة حادة مع سمسار بورصة الأسهم ، وقد زفَّ له نبأ انهيار السوق المالي.

نظر مرة أخرى إلى خاتم الزواج ، نزعه من إصبعه ، وضعه على الطاولة، أخذ يفرك وجهه بكفه ، وحاول أن يبكي ، لكنه لم يستطع.

عندئذٍ قرر أن ينفذ ما يجول في رأسه ، قرر ففتح درج المكتب ، وأخرج منه المسدس ، تفقده من كل الجهات ، مضى يكلمه ، يتلمسه ، ثم وضع فوهته على ميمنة رأسه ، واستدار معطياً ظهره لباب المكتب ، واستعد لإطلاق الرصاصة، استعد للرحيل عن هذا العالم في لحظة واحدة .

لقد قرر الانتحار ، وفي ظنه أن هذا هو القرار الأخطر في حياته.

وقبل ضغط الزناد ، فتحت زوحته الباب ، كانت تلهث ، فلم تلاحظ المسدس في يده، أما هو فاستدار بسرعة نحوها ، لم يصدق ما رأت عيناه ، إنها زوحته ، فرمى بالمسدس على مقعده ، وركض نحوها . أخذها بين يديه ، بدأ بطرح الأسئلة عليها ، لكنها بدلاً من الإجابة على أسئلتة راحت تبكي وتنتحب.

لم يفهم سر الدموع ، أهي دموع الأسف والاعتذار أم تراها دموع التماسيح ؟ فعاد وكرر ذات الأسئلة.

لم تتمكن من النطق بشكل سليم ، كانت الدموع ، والشهقات ، تتخلل حروف الكلمات فوق لسانها، لكنه رغم كل ذلك استطاع أن يفهم السر، إنه ابنه الكبير ، لقد صدم ثلاثة من الشبان بسيارته وهو في حالة سكر ، مما استدعى نقله والمصابين إلى المستشفى ، فيما حالة أحدهم خطيرة للغاية.

لقد فشلت الخطة ، فشل قرار الانتحار ، أحس بأن الحظَّ يسخر منه ، شعر ببعض الندم ، وبأنه كان على وشك ارتكاب جريمة كبرى بحقه ، وحقِّ عائلته.
شعر بتأنيب الضمير ، فمضى يلوم نفسه ، يعاتبها بينه وبين نفسه ، وقد بدا له فداحة ما حصل.

وهنا رفع رأسه إلى السماء ، أغمض عينيه ، أخذ يتمتم بصمت ، كمن يصلي ، أو يعترف بأخطائه سِرَّاً.

استمر لثوانٍ على هذا الوضع ، لم ينطق كلمة واحدة ، ولم يلبث أن رجع إلى سابق عهده ، رجع إلى الواقع ، ليعود بعدها ويضم زوجته إلى صدره ، ويرمي بأحزانه في بحور أحزانها ، تلك الأحزان التي تشابه أحزانه الكبيرة إلى حدٍّ يفوق الخيال ، وربما أكثر من ذلك وأكثر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس


.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه




.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة


.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى




.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية