الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مناحة نبيل ياسين على بلاد الرافدين

ثائر العذاري

2008 / 5 / 30
الادب والفن


على الرغم من إيماني بأن النصوص الإبداعية يجب أن تفهم بقطع العلاقة بينها وبين مُنشئها وزمن إنشائها، فإني وجدت أن مطولة نبيل ياسين ((مناحة على بلاد الرافدين)) لا يمكن أن تفهم حق الفهم ما لم توضع في السياق التاريخي وقت نشرها (1996)، فثيماتها مرتبطة ارتباطا وثيقا بإرهاصات تلك الحقبة السوداء في تاريخ العراق (ذروة الإنهاك بسبب الحصار المطبق- ذروة البطش الديكتاتوري، ذروة الفقر والحرمان، ذروة الفساد الإداري، وذروات كثيرة أخرى....).
يحاول النص خلق هوية عراقية صافية لـ(بلاد الرافدين) من خلال تدمير الحدود الزمنية بين الحقب التاريخية الطويلة،ومزج تلك الحقب في يوتقة واحدة، فأحد أهم العناصر الفنية في هذا النص توظيف الفولكلور العراقي؛ قديمه وحديثه ومعاصره، في مكان واحد، ففي أول النص:
.......................
لا ثوب يجلبه مسافر من دمشق
ولا عباءة من نسيج الفرس في شيراز
لا أحدا يجيء بماء زمزم
كي يكون غسيلها في الموت
......................
هذه الإشارات مستمدة من ممارسات تراثية كان يعرفها العراقيون أوائل القرن الماضي، فالمسافرون الذين يعودون من الشام أو إيران أو الحج يجلبون معهم هذه الهدايا التقليدية؛ حرير دمشقي وعباءة شيرازية وماء زمزم للتبرك.
وفي منتصف النص نواجه ظواهر فولكلورية من عصور ضاربة في القدم:
............................
جاء سرب من الكاهنات، من حاملات المباخر
يمشين في مشية من جلال وصمت، حاملات المباخر
يمضين للمعبد الحجري وسط المدينة،من حاملات المباخر
....................

طقوس فولكلورية (أكدية) نجد صورها في النقوش المتبقية على جدران المعابد القديمة. وفي آخر النص:

..............
لم يعد طقسنا صالحا
انتظرنا، انتظرنا
انتظرنا شهور الولادة والخصب
وانتظرنا الزواج المقدس
انتظرنا الخليقة ثانية
انتظرنا البلاد
تولد من رحم عشتار ثانية
وانتظرنا
انتظرنا
انتظرنا


ثيمة الانتظار هذه كانت طقسا شعبيا يوميا للعراقيين أيام الحصار في التسعينات من القرن الماضي، كانوا ينتظرون التغيير كل يوم ويشعرون أنه مستحيل كالعنقاء، ينسجون قصص وأساطير الانتظار في أحلام وإشاعات ونبوءات.
هكذا يخلط نبيل ياسين بين حقب التاريخ في تسلسل لا يمت الى تسلسلها التاريخي بصلة، فهو يريد تحطيم ذلك التراتب ليمزجها في مزاج واحد يصنع منه امرأته الأسطورية (بلاد الرافدين)، التي يحدثنا عنها النص، لتكون حقيقة فنية تستمد واقعية طاغية مستمدة من الحقيقة التاريخية.
اختار الشاعر أن يبني القصيدة بنية الأناشيد الدينية العراقية القديمة مثلما تصورها الرقم الطينية التي يبدو أن أوضحها ما وصل إلينا من ملحمة كلكامش، غير أن المضامين الميثولوجية في القصيدة تكون تركيبة ميثولوجية مبتكرة تتمثل في مزيج من الأساطير العراقية القديمة، على اختلاف أمكنتها وأزمنتها، وتطعيمها ببعض الثيم المأخوذة من الموروث الديني الإسلامي:
................
كان سرب من الكاهنات من حاملات المباخر
قد وصلن الى الماء فانعكست صورة الكاهنات
على الماء يحملن نارا وأجران دمع معا،
ويرددن بصوت خفيض مناحاتهن
..................
هذا المشهد يمكن أن يكون صورة منحوتة على لوح طيني في (أور)، وهذا المقطع:
...............
المهرجانات
والكرنفالات
والكاهنات
يغرقن في انهمار التراتيل والعزف في شارع
الموكب الملكي
....................
شارع الموكب الملكي هذا معلم بارز ومعروف من معالم بابل، لكن بابل وأور وإبراهيم (ع) كما هي صورته في الموروث الإسلامي تمتزج كلها هنا..
.............
مثلما هوت أور وهاجر إبراهيم
من هو إبراهيم؟
عشتار لم تعرفه
ولم تنم معه
......................
هذا الخليط الميثولوجي كان تكنيكا مقصودا في هذا النص لبناء شخصية المرأة الأسطورية (بلاد الرافدين)، وإعطائها هوية شخصية واضحة، قوامها التاريخ العراقي (والعراقي فقط) على امتداده.
هذا النص مكتوب بضمير المتكلم، لكن هذا المتكلم يطرح إشكالية أخرى، فهو خالد وشاهد على التاريخ، فبينما كان يتحدث في المقطع الأول عن الشاي الذي كانت تعده المرأة المسنة، ويحدثنا عن سماعه تمتمتها وهي تتشاءم من انكسار مرآة، يحدثنا في مقطع آخر عن وجوده في احتفال ديني بابلي:
....................
وحيث البغايا يعطرن أفخاذهن
بعشب البلاد الوحيد
وحيث الوصيفات يصلحن من زينة يابسة
صعدنا سلالمنا
وتهيأ أكثرنا للقاء البغايا على سرر في حجرات
مبخرة من مباخرهن
من حاملات المباخر
.....................
وفي الحوار بينه وبين المرأة المسنة في بداية النص يقول:
ألست بقية من آلهات الرافدين، أقمت في [لجش]، وأور، ثم جاء بك الغزاة الى أريدو، أقدم المدن المقدسة القديمة، قبل أن تأتي نساؤك نحو بغداد؟رأيتك في شوارعها وفي أسواقها، ورأيت إكليلا من الورق المذهب فوق رأسك عائما في النهر، والفقراء يتبعون عند الضفتين مسيره النهري؟
هنا يبدو المتكلم محيطا بالتاريخ، والزمان والمكان كله بين يديه، وهو يذهب الى أبعد من هذا هنا:
...................
إبراهيم
يا إبراهيم
تعال وناولني القربان
لماذا ترحل
هل أنت خليلي، أم أنت خليل ملوك، وغزاة، أم أنت خليل الغرباء
...............
كلمة (خليل) قادمة من الموروث الإسلامي، حيث هي صفة لإبراهيم (خليل الله)، فهل المتكلم في القصيدة هو (الله)؟ أم هو إله عراقي قديم من تلك الآله التي تصورها الميثولوجيات؟
...............
ماذا فعلتِ؟
لكي أجيء إليك، قبل دخول قاعة عرشي الملكي.
حيث الكاهنات يقمن لي بطقوسهنّ
وحيث تحتشد النساء
................
في الثلث الأخير من النص يرد المقطع الآتي:
..................
في الساعة الثانية
وخمس دقائق فجرا
كان أهل المدينة تأخذهم سنة من النوم
مضطربين، أهل المينة
................
هذا الموعد – في رأينا- يمثل مفتاح فهم النص، فالنص كله يتحدث عن هذه اللحظة، إنها اللحظة التي بدأ بها الهجوم الجوي على بغداد عام 1991 أثناء حرب الخليج الثانية، هذه اللحظة- في رؤية النص، هي التي أجهزت على (بلاد الرافدين)، ليتساقط تاريخها كله فيختلط بعضه ببعض. وعند هذه النقطة نفهم كل شفرة النص وايماءاته، فالآن نفهم أن:
لا ثوب يجلبه مسافر من دمشق
فقد أصبح المسافرون يرحلون ولا يرجعون، ولم تعد هناك هدايا يجلبها مسافر.ويمكننا أن نفهم من هذه الأسطر:
والكاهنات يغرقن في انهمار التراتيل والعزف في شارع الموكب الملكي
وحشود القتلة
تصعد سلم معبدنا
بينما الكهنة
يرشون التوابل فوق فروج النساء
..........
حماقة سياسية نابعة من أهواء دكتاتور مهووس أدت الى استباحة هذه البلاد وانتهاكها. وفي مقطع آخر يرسم الشاعر بلغة مكثفة كيف كان يسوق الخطاب السياسي السمج في تلك الفترة وكيف كان البعض ممن يدعي الشاعرية يعيد انتاجه واستهلاكه:
..........
في الطريق الى الاحتفال
رأيت التراتيل تسقط فوق الحشود
وهناك من كان يجمع إيقاعها
ويلتقط الكلمات في كيسه
ويعيد إنشادها من جديد

وفي مقطع آخر يظهر الدكتاتور وهو عاكف على إعداد خطابه، الذي لم يكن يهمه في تلك اللحظة غيره:

وكان مقدم الكهنة
يعد التراتيلللآحتفال الإلهي قبل أن يغلق الباب
بين الرواق الطويل
وبين فراش البغي المقدسة النائمة

ولا بد من الإشارة الى الكثافة الهائلة التي يحملها تعبير (البغي المقدسة) الذي تكرر أكثر من مرة في النص، إنها الأرض المقدسة لكن المسباحة التي ما فتئت ترزح تحت أقدام الغزاة من كل لون وفي كل زمن.
إن ما لا بد من الإشارة إليه، أن الشاعر استطاع أن يوفق بين البنية النصية والبنية الموضوعية للقصيدة، فبينهما تساوق يؤدي وظيفة واضحة في بناء الجو العام للنص، فمثلما يتراكم التاريخ ويختلط، تتراكم الأساليب الشعرية وتختلط هي الأخرى، فالقصيدة تبدأ بالشكل المألوف لقصيدة التفعيلة:
هل تعتني بالورد
أم بالميت الملفوف بالكفنِ
أم تصطفي عطرا لزينتها، وفنجانا لجارتها

البداية بشكل قصيدة التفعيلة (عل تفعيلة الكامل= متفاعلن)، وبعد حين يتحول النص الى الشكل الستيني الذي شاع فيه استخدام بحري (المتدارك) و(المتقارب) وربما المزج بينهما في نص واحد:
قولي
لماذا بائعات الهوى
يسترحن على باب عشتار
بانتظار الجنود الذين يعودون من الحرب صنفين
صنف قتيل
وآخر ممتلئا شبقا للنساء
....................
يمكن أن نلاحظ هنا الانتقال من تفعيلة الكامل الى المتدارك فاعلن، فالشاعر يستغل إمكانية تحول (متفاعلن) الى (مستفعلن) بالزحاف، فيأتي بعبارة على البحر السريع الذي لن يبدو غريبا على أذن القارئ:
قولي لماذا بائعات الهوى
مستفعلن مستفعلن فاعلن

وهكذا يبدأ بتكرار فاعلن ابتداء من هنا، ولكن فاعلن تتحول الى فعولن ابتداء من عبارة (من الحرب). وفي مقطع إبراهيم وعشتار ندخل في عالم الرجز:
.....................
ولم تنم معهْ
ولم يكن ضحية لمكرها، ولم يكن مولّها بها
........
وفي موضع آخر يتحول النص الى الشكل النثري:
.........
هاجرَ إبراهيم
لم ترحل وراءه الأرض ولم ترحل وراءه المياه
.. ومذ ذاك صار الكهنة
يضعون أغانيهم فوق أردية الميتين
...................

يقدم نبيل ياسين في هذا النص نموذجا جيدا لتشغيل البناء الفني في خدمة المضمون، غير أن القارئ إذا حاول إيجاد علاقة بين المعنى المحلي للعبارات وإيقاعها فإنه لن يجد شيئا يذكر، فلم يكن هذا في خطة الشاعر، وكل ما كان يريده صنع صورة لركام (بلاد الرافدين) وهي تتدمر تحت ضربات أعتى قوة همجية في العالم وفي التاريخ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اختيار الناقدة علا الشافعى فى عضوية اللجنة العليا لمهرجان ال


.. صباح العربية | نجوم الفن والجماهير يدعمون فنان العرب محمد عب




.. مقابلة فنية | المخرجة لينا خوري: تفرّغتُ للإخراح وتركتُ باقي


.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء




.. بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء خاص مع الفنان