الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خطاب الاجتثاث

حمزة الحسن

2004 / 1 / 14
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


يتوهم من يعتقد أن الحزب الفاشي السابق في العراق هو  عبارة عن حزب سياسي فحسب، بل هو منظومة واسعة من القيم الأخلاقية وأنساق من المفاهيم الثقافية المشوهة عن الحياة، وهو تشكيلة وحشية من أنماط ومعايير السلوك التي تقوم على الحيلة والشطارة والبلطجة والخداع وعقلية الغريم والثأر.

وفكرة الاجتثاث بالصيغة المطروحة هي صيغة عسكرية بوليسية ساذجة لا تقوم على معرفة دقيقة  بحجم الخراب النفسي والأخلاقي والاجتماعي الذي قام به الحزب الدموي على مر الحقب المشؤومة.

لقد تغلغلت في النفوس بالقوة والتكرار والتربية والتنظيم مبادئ سلوكية  منحطة وتداخلت على نحو فوضوي وسري مع قيم شخصية وعائلية وثقافية ومع تقاليد تاريخية عريقة حتى صار من الصعب الفصل بين كل هذه المكونات والعناصر.

ولذلك فإن فكرة( الاجتثاث) من فوق عبر البتر الإداري أو القرارات الفوقية هي فكرة تأسست على تجارب النظام البائد نفسه الذي عمل بكل الوسائل الوحشية بنفس الطرق على فرض قواعد حياة أخرى عن طريق القوة.

إن الاجتثاث الحقيقي لحزب السلطة يأتي من خلال برنامج معرفي وثقافي وفكري بديل يحتوي على نسق جديد من المفاهيم يقوم على النقيض من نسق أحادي تصفوي قبلي. وهذه مهمة لا يقوم بها الساسة وحدهم بل النخب العلمية والفكرية والثقافية لأن حجم الخراب في النفوس هو أخطر بكثير من حجم الخراب في المؤسسات والأشياء: والأهم هو الخروج من "ثقافة" الصمت على  سلوك الحذف ومنطق المحو وعقلية تصفية الحسابات ووضعها ،بالحيلة، على أنها ثقافة وطنية.

و(ثقافة) الحيلة والشطارة لا تنتج معرفة أبدا، بل تنتج سلطة قمعية حتى عبر خطاب: إن كل سلطة في العالم موجودة داخل خطاب سواء كانت سلطة حاكمة أو محكومة.وسلطة الخطاب تعكس مصدرها. فالخطاب النبوي مثلا هو خطاب توقع ونبوءة وأمل  حسب علم اللسانيات، وخطاب السياسي هو خطاب إقناع، وخطاب الفيلسوف هو خطاب الشك والسؤال، وخطاب العاشق هو خطاب عاطفة، وكل خطاب( حسب المفكر بورديو) هو لغة واللغة تظهر هذه السلطة وترمز إليها، كما أن اللغة تستمد سلطتها من خارجها ـ حسب بورديو أيضا ـ فالصولجان هو رمز هذه اللغة حين يلوح به. وحسب ميشل فوكو في( نظام الخطاب) فإن الخطاب هو ما نصارع من أجله، وما نصارع به، وهو السلطة التي نحاول الاستيلاء عليها.   

إذن بإجماع علماء اللغة شرقا وغربا، فإن الخطاب ليس لغة فحسب، بل هو مصدر وسلطة سواء كانت هذه السلطة فردا أم دولة أم مؤسسة: فلا يمكن مثلا أن يتكلم الفيلسوف بخطاب سياسي مأجور، ولا يمكن لهذا أن يستعير خطاب المفكر أو الشاعر أو الروائي... وهكذا تتعدد الخطابات حسب نوع السلطة.

إن (البعث) ليس حزبا فحسب، بل عقلية وذهنية وطريقة تصرف ومعرفة دونية بالحياة والآخر وهو خطاب تأسس على الموت وذهنية الحيازة. وكل حيازة هي مصادرة. وكل مصادرة  من طرف هي نفي أو موت لطرف آخر: وهنا لا تكون اللغة بريئة كما تحب أن تظهر بل متورطة في نقل سلطة والتلويح بها. وحسب المفكر ميرولوبونتي لا يوجد هناك فكر بدون لغة حتى الصمت هو لغة( لأنه يضج بالكلام) وهذا الصمت الباطني هو( لغة باطنية) لأننا حين نصمت من الخارج، نفكر، بصمت، من الداخل في منولوج داخلي طويل من خلال لغة ورموز وشفرات.

 وهذه الخطابات المتنوعة لا تظهر فجأة ولا تختفي فجأة بل هي تولد عبر أزمنة، وتضمحل عبر أزمنة.

 بناء على ذلك ليس مهما إعلان البراءة من الحزب الفاشي فحسب، بل المهم هو البناء المنهجي والعلمي الطويل الأمد لانسان خُربت فيه صورة الانسان ويحتاج لكي يعود الى صورته الاصلية إلى سنوات من العمل المضني والشاق.

إن الثورة الفرنسية مثلا قامت بأول عمل تاريخي وهو تغيير القاموس الفرنسي القديم على يد نخبة من المفكرين والعلماء والمثقفين والحكماء وأزيلت من القاموس السابق كل مفردات الغطرسة والإلغاء التي تدخل في الوعي الجماعي وتعمل  كتقاليد فكرية عادية.

لكي نخلق جيلا يتمتع بحس أخلاقي وقانوني رفيع يجب إشاعة مفردات  القانون وحس العدالة ورفض أساليب النظام السابق القائمة على المزاجية و"الفهلوة" والكراهية التي صارت اليوم قيما عادية طبيعية مثل ظواهر الطبيعة الأخرى.

وهذه المهمة الشاقة تنهض بها مؤسسات تربوية وثقافية وإعلامية وسياسية وليس من خلال السلوك البوليسي الضار في كل الحقب.

واحدة من ممهدات الطريق لتلك الفاشية كانت غياب المصدات القانونية وغياب المؤسسات الخاصة بالمجتمع المدني وغياب المؤسسة الاعلامية الشريفة والحرة التي تقوم في كل الدول على الرقابة وعلى وضع هذه المؤسسات بيد أمينة لا تعاني من عقد وجروح وتقاليد الشوارع الخلفية لكي لا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام غول جديد ودم جديد.

فهذا الشعب الجريح ليس فأر تجارب لكي يجرب عليه كل من هب ودب تقاليد البلطجة وأخلاق الرعاع لكي نجد أنفسنا مرة أخرى في تيه جديد ونحن لم نخرج بعد من عالم الانقاض العام في الاجساد والأرواح والمؤسسات.

إننا في الطريق إلى مرحلة صعبة ومريرة وهي مرحلة حبلى بأحداث عاصفة وزلزالية تتطلب أقصى حالات الوعي النجيب  واليقظة قبل أن تسحقنا عجلات وقوى وحوافر خيل جاهزة ومتحفزة.

أما الذين يراهنون، عن جهل أو مكر، على اللحظة الراهنة، والعبث مرة أخرى بكياننا الوطني، فهؤلاء، بوعي أو بدون وعي، هم من بقايا العقل (البعثي) الذي بدأ معنا نفس البدايات في غفلة من الاحزاب والتاريخ والنخب السياسية والثقافية.

فالبراءة من سلطة الوحش لا تعني شتمها علنا وممارسة سلوكها سرا بل تعني البراءة بأدق معانيها رفض أفكار وسلوكيات وأخلاقيات خرج منها الجميع خاسرين وتم تسليم البلد إلى هاوية لا أحد يعرف إلى أين ستقود لأن طغاة جددا يرقدون في الذاكرة بالتعليم والتربية والممارسة والعقلية ولا يحتاجون إلى الظهور سوى غفلة مرة أخرى لكي نجد أنفسنا في ذات المأزق الذي أكل الأخضر واليابس.

 نحن على عتبة مرحلة تحول صعبة وهي مرحلة يمكن القول بكل قلق وثقة أنها مرحلة انفجار وشيك. فهل سنترك  اللحى مرة أخرى بيد عابثة كي تصادر حتى ما تبقى من أنقاض وجثث وخرائب؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لماذا لم تتراجع شعبية ترامب رغم الإدانة؟| #أميركا_اليوم


.. 10 شهداء بينهم أطفال وعدد من الإصابات في قصف استهدف منطقة رم




.. بن غفير: الصفقة تعني التخلي عن تدمير حماس فإذا ذهب نتنياهو ب


.. تشويه لوحة فرنسية شهيرة بسبب التقاعس بمواجهة التغير المناخي




.. تظاهرة في مدينة بينغول التركية دعماً لفلسطين وغزة