الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شرطة مراقبة الكتّّاب

رحيم العراقي

2008 / 6 / 13
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


مؤلف هذا الكتاب هو «برونو فولينيي» مجاز في العلوم السياسية ومؤلف العديد من الكتب من بينها: «فكتور هوغو رئيساً» و«ال15 ألف نائب في الأمس واليوم» و«الدولة هي أنا»... إذا كان من المعروف والمشهور أن الشرطة وعالمها وتحقيقاتها شكّلت أحد المواضيع التي استلهم منها الأدب كثيراً، بل أن هناك نوعا روائيا قائما بحاله تحت عنوان «الرواية البوليسية»، فإنه من المعروف بدرجة أقل أن الكتّاب والمبدعين كانوا دائما «موضوع» مراقبة أجهزة الشرطة. ولعل مثل هذا الأمر لا يثير الكثير من الاستغراب بالنسبة للبلدان التي يتم تصنيفها ضمن «خانة الديمقراطية».
لكن «الاستغراب» شيء والواقع شيء آخر، هذا ما يؤكده مؤلف كتاب «شرطة مراقبة الكتاب» بقوة، وذلك عبر تفحصه ل«الملفات» التي تتضمنها خزائن أجهزة الشرطة حول مجموعة من الأدباء والكتّاب «المشبوهين» من المشاهير. هكذا نقرأ مثلا عن بول فيرلين ما يلي: «شخصية تافهة لا قيمة لها. وهو رجل خطير نظرا لما تحتويه شخصيته من زيف ومدى ما ينم عنه مشاعره من حساسة». أما الشاعر الكبير «آرثر رامبو»، صاحب «الإشراقات» التي ربما تكون من أفضل ما أنتجته المخيلة الإنسانية من شعر، فتقرأ عنه: «انه رجل مخيف ومثير للقرف. وسلوكياته كشخص تشبه نخر الديدان، أما أعماله الأدبية فهي غير مفهومة على الإطلاق، هذا فضلا عن كون أنها منفرة».
وماذا عن فكتور هوغو، صاحب «البؤساء» وأحد قمم فرنسا في الشعر والأدب وأحد رموزها السياسية التحررية. لقد جاء في بعض ما جاء، في ملفه: «انه رجل يثير ابتسام الناس الرشيدين النبهاء شفقة عليه». ونقرأ عن جون فالس،...............: «شوهد لفترة طويلة في مقاهي الحي اللاتيني وهو يقوم بالتحريض ضد النظام والقانون، متأملا أن يجد في عملية اضطراب اجتماعي كبير النعيم الذي لم يسمح له مزاجه الفاسق والكسول بالحصول عليه عبر عمل منتظم». وكعينة أخرى يتم توصيف اندريه بروتون، أحد مؤسسي التيار السوريالي في الأدب وطريقة العيش، إنه «يتردد على مقهى دو ماغو ـ مقهى شهير كان يؤمّه الكتاب والمشاهير في عالم الأدب والسياسة من أمثال سارتر وكامو وسيمون دوبوفوار ـ حيث يلتقي بالمدعو بنجامان بيريت المشبوه هو الآخر أيضا بالقيام بنشاطات مناهضة للحس الوطني».
ما سبق من أمثلة هو بعض ما يقدمه مؤلف هذا الكتاب للتدليل على مدى اهتمام «محافظة شرطة» باريس بنشاطات أهل الفكر والأدب. ولكن ليس من باب الهواية والإعجاب، وإنما بالأحرى من باب الرقابة البوليسية لرصد حركاتهم ونشاطاتهم، خاصة خلال القرن التاسع عشر. ويشير المؤلف إلى ما كتبه محافظ شرطة باريس لويس اندرو، في مذكراته التي نشرها عام 1885 تحت عنوان «يوميات محافظ» وقال فيها: «من الخطأ الاعتقاد أن الملفات ـ لدى الشرطة ـ تقتصر على المجرمين وعلى غيرهم من الجانحين الذين تطلق عليهم تسمية رجال السياسة». وبالفعل اعتقد «برونو فولينيي» أنه ينبغي التمحيص في الملفات المعنية من أجل الاطلاع على ما تخفيه بخصوص فئة معينة.
تتمثل إحدى النتائج الأساسية التي تمّ التوصل إليها عبر التنقيب في الملفات في أن جميع الكتاب والمبدعين في ظل الجمهورية الفرنسية الثالثة من روائيين وشعراء وغيرهم من الكتّاب هم «مخرّبون بالضرورة». لكن ماذا كان يجعلهم موضع مثل هذه الشبهة؟ السبب الأول هو أنهم «يمتلكون أفكارا»، وخاصة «سياسية» تنضح بها كتاباتهم. هكذا جرى التجسس على الكاتب والصحافي الفرنسي «جول فاليس». وفي عام 1871 جرى اعتباره مسؤولا في «كومونة باريس» التي كان قد دافع عنها في الصحيفة التي كان يكتب بها «صرخة الشعب». وفي نهاية الانتفاضة حوكم غيابيا وحكم عليه بالإعدام فما كان منه إلا أن لجأ إلى لندن ولم يعد إلى باريس إلا بعد عشر سنوات من منفاه القسري.
ومن بين «المشبوهين» من الأدباء والكتّاب الذي كرّست لهم الشرطة ملفات خاصة بسبب أفكارهم «التخريبية» الروائي اميل زولا. وبدا أن أكثر ما كانت الشرطة تعيبه عليه هو موقفه من محاكمة الضابط الفرنسي دريفوس الذي وجهوا له تهمة التعاون مع الألمان وجرّدوه من كل رتبه وأصدروا بحقه أقسى الأحكام. وكان فرنسا قد انقسمت حيال تلك المحاكمة بين تيارين، أحدهما صبّ جام غضبه على دريفوس وآخر تصدى للدفاع عنه، وكان اميل زولا هو أحد رموز هذا التيار الثاني، وهو صاحب الرسالة الشهيرة التي وجهها على صفحات الجرائد إلى رئيس الجمهورية تحت عنوان «إني أتهم». انتهى الأمر بتبرئة دريفوس وإعادة الاعتبار له بعد سجن استمر فترة طويلة.
ومن مصادر الشبهة التي اعتمدتها أجهزة الشرطة ضد الكتّاب هو ليس كون أفكارهم مخرّبة فحسب، وإنما أيضا سلوكهم جرى اعتباره مخرّبا إذ لم تكن تتماشى مع «أخلاق الحقبة». وينقل المؤلف عن محافظ الشرطة السابق لويس اندرو ـ هو الأب غير الشرعي للشاعر لويس اراغون ـ قوله في تعريف الملف البوليسي عن الشخص: «ليس هدفه تحديد من أنتم وإنما خاصة ما يقال عنكم. إن المعلومة الأكثر إغراقا في الكذب يمكنها أن توضح أثرا ما، وبالتالي يمكن أن تثير اهتمام الشرطة».
على هذا الأساس يمكن للملف الخاص بأي كاتب أن يحتوي على «جميع المعلومات دون أي تمييز بين ما هو صحيح وما هو كاذب منها، وجميع التقارير التي شكّل موضوعا لها، وكل الوشايات التي استهدفته، وكل مقال أو كل خبر ورد اسمه فيه». وكانت صياغة مثل ذلك الملف تتطلب جحافل من «العملاء السريين». وتشير التحقيقات التي قام بها المؤلف أن أجهزة الشرطة كانت تفضل تجنيد «صحافيين» من أجل مراقبة الكتّاب بسبب سهولة عملية الاحتكاك والاقتراب منهم ب«حكم المهنة». كذلك جرى اللجوء إلى عمليات التضليل الإعلامي ودس المخبرين في الأوساط الأدبية وخاصة أولئك «المخبرين» الذين كانت لهم انتماءات سابقة إلى أحزاب ومجموعات ثورية التي كان السواد الأعظم من الكتاب قريبين منها.
ويحدد المؤلف أسباب «التجسس» الذي قامت به أجهزة الشرطة على الشاعر والروائي فكتور هوغو أنه «ينشر دعايات اشتراكية، ويقوم بحملة من أجل العفو عن أعضاء كومونة باريس ويمارس الزنا». وعلى فيرلين أنه: «يساهم في نشاطات حركة ثورية، والشذوذ الجنسي واختلاس الأموال والشروع بمحاولات قتل والسكر والتشرد الليلي»، وعلى الكسندر دوما الابن أنه: «متلون سياسيا»، وعلى اندريه بروتون أنه «متطرف ثوري ويحمل السلاح ويمارس الضرب ويهدد الآخرين بالموت ويمارس نشاطات غير وطنية». هذه التوصيفات كلها جمعتها الشرطة المعنية كلها في إطار خانة واحدة هي «التخريب».
ويشير المؤلف أنه مما يؤسف له أن أراشيف ما قبل عام 1871 غير متوفرة لسبب بسيط هو أن متمردي «كومونة باريس» كانوا قد أحرقوا جميع أراشيف الشرطة. وهو يؤكد أن كتّاباً كباراً من أمثال روسو وفولتير وشاتوبريان والمركيز دوساد، كانت لهم أيضا «ملفاتهم» في خزائن أجهزة الشرطة» ثم وعلى أساس النهج نفسه من التفكير ليس هناك ما يسمح بالاعتقاد أن مثل هذه الملفات غير موجودة في أراشيف ما بعد عام 1945، أي ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية والتي لا تزال حتى اليوم خاضعة ل«قوانين الحماية».
بل هناك دلائل كثيرة على أن الصحافيين والكتاب يشكّلون موضوع رقابة دقيقة. وكانت فترة الرئيس فرانسوا ميتيران قد شهدت الكشف عن فضيحة «التجسس الهاتفي» على عدد من الكتّاب والمفكرين.وكتب عن المفكّرين والكتّاب والأدباء الفرنسيين خاصة في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وما قيل عنهم وإنما في ملفات الشرطة وليس في مقالات النقاد. وفي كل الأحوال ومهما قيل عن مسألة حرية التعبير يبدو أن حدود هذه الحرية تتوقف عندما تبدأ مصلحة الدولة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أخبار الساعة | بنك فلسطين يشكك في صحة تقرير -لوموند- عن خسار


.. أخبار الساعة | روسيا تسابق الزمن لخلافة الوجود الأميركي في ا




.. أخبار الساعة | توتر سياسي غير مسبوق بين إسبانيا والأرجنتين ق


.. مصير مفاوضات القاهرة بين حسابات نتنياهو والسنوار | #غرفة_الأ




.. التواجد الإيراني في إفريقيا.. توسع وتأثير متزايد وسط استمرار