الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تعدد الدلالات و الأصوات .. قراءة في اخلص لبحرك لمسعود شومان

محمد سمير عبد السلام

2008 / 6 / 4
الادب والفن


تجسد كتابة مسعود شومان الشعرية قدرة العامية المصرية على تجاوز المدلول الثقافي الأول للعلامة ، من خلال اتحادها بالدلالات الكونية ، و طاقات اللاوعي ، و الهوامش الخفية الفريدة المميزة للشخوص ، و الأشياء خارج واقعها المحدود . يبدو هذا واضحا في ديوانه " اخلص لبحرك " الصادر عن هيئة قصور الثقافة ؛ إذ يبدأ النص من السياق الوظيفي للشخصية ، ثم ينقطع في اتجاه مضاد للحدود الأولى التي بدأ تشكيل الصوت من خلالها فنجد النجار يذوب في أدواته ، ثم تبدو الأدوات في حالة سردية لها طابع اندماجي / كوني ، و غريزي أحيانا ، و كأننا أمام فاعلية شبحية خفية تناهض البعد الواحد في تكوين الأشياء .
إن التحول باتجاه الطاقة الإبداعية الأصلية هنا يسير في مستويين :
الأول : صوت الشخصية ، و هو غير مشبع بدلالاته الأولى ، و يظل معلقا في مستوياته التمثيلية العديدة ، التي يختلط فيها الواقع الثقافي بالكتابة ، فدوال المهنة جميعها تتحول إلى لغة إبداعية كونية تأويلية جديدة ، و مضادة لحدود الصوت الواحد ، فهي تسخر من الصوت ، و لكنها تشكله في طاقة قوية متجاوزة للحدود .
الثاني : الحياة السرية للأدوات و الأشياء الملازمة لصاحب المهنة ، و تتجلى فيها طاقة اللعب ، و الرغبة في التحرر ، و العودة إلى الاندماج الأول بعناصر الكون . و لكنه اندماج ما بعد الهوية ، و الوظيفة ، و الحدود الزمنية ، حيث تظل بهجة التحول حاملة لأثر الحياة المتجدد في الشيء حينما يقاوم وظيفته انطلاقا من قوة السرد الشعري الكامنة وراء الجانب الوظيفي نفسه .
في نص " درويش " تمتزج ذكرى الحب ، بالأفول المميز للزهد ، و كأن للتحلل حياة خاصة في وعي الدرويش . تلك الحياة هي وظيفة مضادة للآلية ابتداء ، و يتحول فيها الموت إلى طاقة عشق خفية ، تنتشر في المهن و الشخصيات الأخرى التي اختارها الشاعر . إن الدرويش كامن في الشخصيات الأخرى كوظيفة مضادة أصيلة تفكك بنية الصوت بالكشف عن آثاره ، و حياته المجازية الأولى .
تنمو شخصية الدرويش من خلال بقاء المتكلم في حالة حب غير مشبعة ، و لكنها تستشرف صوت الالتئام و العشق الكوني ؛ لتجدد من خلاله ذكرى الحب من خلال بنية التحلل التي يندمج فيها الموت بطاقة العشق المضادة لثبات الهوية . يقول :
" باعرف أشوف الشجر حتى لو دبلان / عارف بحاله و هو عارف حالي / كان نفسه تبقى الضلة نايمة في لحدي / بارمي عليه السلام على قد ما أوحالي / شباكي بيشوف القمر لو يسهر / و رجلي عارفة سر المشية على أوحالي / بيني و بينها في الطريق ده ميعاد " .
لقد اندمجت دوال التفاعل و التوحد ، بدوال الأفول مثل ( اللحد و الأوحال و الذبول ) ؛ ليكشف المتكلم عن حياته الأخرى ، و صوته الآخر المتجاوز لحدوده الثقافية .
و في نص " النجار " تبدو الحياة البديلة للأشياء في حالة تحرر ، و فاعلية تخيلية تصارع واقعها من خلال مفرداته ، و تترك آثارها في حالة بهجة كونية تقاوم زمنها الخاص و تتجدد في المسارات التخيلية للعناصر الأخرى . يقول :
" قال الشاكوش للمراكبي / عملت لك قارب / خدني معاك يا عم حررني / أرمي العواف ع السمك / و اغزل معاك الشبك / و اخوف المسامير / قال له ما تنفعنيش في قلب المية / ممكن تصدي هناك ... / كلنا رايحين لبير الصدا و عشان كدا / عيشو معايا و افرحوا / ويا الطبالي و الدكك / و احزنوا جوة خشب النعش " .
هناك أصالة للرغبة في الخروج من المعنى الوظيفي باتجاه الفرح بالصيرورة الإبداعية الكونية . لقد استبدل الجاكوش صوت النجار الحقيقي من خلال طيفه التخيلي الآخر ، ثم مارس لعبة الإغواء و الفرح بالطاقة الكونية خارج آلية الحدود المميزة لهويته مثل النطاق المكاني ، و الصدأ ، و لكن حياته الخفية تستبق الصدأ و تؤجله ؛ ليكتمل الجانب الإبداعي من خلال دلالة الصدأ نفسها ، ففرح الطبول مثل الحزن في النعش يجسدان الإحساس المجرد بحدث الحياة ، المتجدد بتوحد الأصوات و العناصر ، و أخيلة الكتابة .
و في نص " المراكبي " يذوب الصوت في المادة الكونية انطلاقا من اتساع السرد الموازي لاتساع صورة البحر في المخيلة ، فالتوحد هو شرط لتكوين الصوت ، و العشق ، و الوجود ، و مقاومة المحو في الوقت نفسه .
أين نجد الصوت إذا ؟
إنه الأثر المتجدد في تجدد الماء مثل أطياف الأنا المقاومة للوظيفة الإنسانية الأولى ، و هي المراكبي . يقول :
" عشقت بحري و الموج عشقني .. / و البحر نعمة و تحته نار / للي يخونه / عارف شطوطه و موجه قادر / على كل غادر / و اللي استجار بخيره فاز / قلبي عملته قارب نشلني / من دواماته .. / اخلص لبحرك " .
لقد جاء القارب حاملا للوظيفة السردية في النص . تلك التي تؤكد الذوبان في البحر ، و تجدد الصوت دون أن يسقط تماما في العدم ؛ إذ إنه يتطهر في حالة ذوبان غير مكتمل في المادة .
و في نص " العطار " تسود البهجة الطبيعية في النص ، و تستبدل الصوت الواحد ، و تغيبه في رقصتها أحيانا ، مما يذكرنا بأساطير الخصوبة في الربيع . إن لعب الروائح في النص يخفف من ثقل الهوية الجسدية ، و من المرض ، فللرائحة إغواء بالذوبان في الهواء ، و الانتشار المرح للصوت المتعدد . يقول :
" الجنزبيل فقع الموال / الحلبة ضحكت و الينسون / .. أما البابونج المتقرفص / في برطمان تحت الدكة / شاف الدموع اللي بترقص في عيون وحيدة و تعبانة / الشبة طلعت تتبصص ... / و مسحت قلبي ببشاورة / و ماليته من ريحة النعناع " .
لقد اكتسب المتكلم الحياة التفاعلية الخفية للروائح ، ليتوحد بالوهج الأول المتكرر للخصوبة ، و لكن من خلال ما لا يمكن القبض عليه ، أو تحديده ، و كأننا أمام ذوبان للمادة فيما يتجاوزها من خلالها و هي الرائحة .
و في نص " العجلاتي " تختلط الآلية في قسوتها الكاملة ، ببهجة الطيران دون هدف ، و كأن الدراجة تنطلق بعيدا عن حتمية المسار الواحد من خلاله ، و نستطيع قراءة مصير العجلاتي / الإنسان ، و كينونته من خلال مخاوف الموت ، و بهجة الخروج من الحتمية معا . يقول :
" و صباعي محشور في الجنزير / كان ليل فقير و لا فيهش فانوس / و المية نايمة في قلب الزير / و ريقنا ناشف و بينهج / دنيتنا لسة جادون معووج / و سكوتنا نايم متبنج / ... أنا اللي صاحبت الأعياد / و الفرح بيلاغي مواسمي / علي تجري بنات و ولاد / و بيعرفوني من اسمي / عجلاتي و مزوق عجلي " .
ألا تذكرنا نزعة السكون المصاحبة لانطلاق العجلة في المخيلة بالتكوين الذي أبدعه مارسيل دوشامب بين الكرسي و العجلة معا ؟
ثمة ما يجر الصوت إلى التفكك ، و السكوت ، و الانحراف ، و لكن الحلم بالطيران يصاحبه في لذة الحركة ، كمصدر مرح لتجدد الحياة ، و تجاوز تاريخ الدم .
و تتنامى الصورة سرديا في نص " القهوجي " حيث تصير المشروبات ؛ مثل الشاي و القهوة ، و الحلبة بديلة عن الصوت الحزين الصامت ، و تتجاوز المآسي من خلال التمرد ، و الصخب المنتج لسياق ثقافي بديل يقوم على تفاعل العلامات المميزة للمكان / المقهى . يقول :
" شاي الجروح دايما ميزة / على الصواني بيترصص / و آهي دنيا بتكركر أحلام / و فرح ورا فرح بينقص / حطيت شفايفي و باستطعم / الحلبة خافت من صوتي / طب قوللي إيه هايكون أطعم / من صرخة بتهز سكوتي / الكوبايات عملت ثورة " .
لقد اندمجت مشاعر الألم ، و الحزن ، و الفرح ، و التمرد في الحضور المتجدد للمشروب ، الذي يثور على المأساة من خلال اللذة الخفية الكامنة فيها ، فتفتت الأكواب يصنع احتفالية متكررة للألم حين يتجاوز حدوده .
و في نص " الترزي " يكتسب الثوب دلالتي الغربة ، و الحزن حين يتجرد عن الأصل ، و كأنه أفول للصوت ، و استبدال لروحه في الفراغ ، و لكن المتكلم يحاول استعادة حالة الالتئام ، و التوحد برقصة الخيط قبل أن يكتمل الثوب وحيدا . تلك الرقصة التي تجسد البروز الإبداعي للتكوين دونما حجب ، و فراغات ، و ثقل ، و أحزان . يقول :
" حمال جروح و ساعات ترزي / أصحابي من غير الألوان / و خيط بيرقص في الإبرة / نسيت أقولك ع الأحزان / اللي استخبت في الفستان / و حبستها في جيب الجيبة / من الهدوم باخد عبرة / الدنيا في الأصل غريبة " .
هل تنقطع الوظيفة في الرقصة ؟
هل يتحول الفراغ إلى تعطيل لآلية إنجاز الثوب كوظيفة مضادة ؟
إن الفراغ يمحو الثوب قبل أن يصير الأخير صوتا محجوبا .
و في نص " مواويلجي " يعاين صاحب الموال نشوءا آخر للحزن ، و الألم يتميز بالجمال ، و تشكيل هوية الصوت من خلال تحلله الزائف . إنه يقاوم العدم بتجدد الحزن الجميل .
محمد سمير عبد السلام - مصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با


.. شراكة أميركية جزائرية لتعليم اللغة الإنجليزية




.. الناقد طارق الشناوي : تكريم خيري بشارة بمهرجان مالمو -مستحق-