الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفيلم القصير غياب يُسجل حضور المخرج محمد راشد بوعلي في المشهد السينمائيّ البحرينيّ

صلاح سرميني

2008 / 6 / 9
الادب والفن



يذهب إلى الباب, يفتحه, لا يرى أحداً, يعود، يتناول الجريدة, ويواصل القراءة، وبعد دقائق, يرمي بالجريدة, ويتوجه إلى الباب، يفتحه، ينظر في الخارج، لم يكن هناك أحد، يغلق الباب, ويعود إلي جريدته، وبعد دقائق, يكرر نفس العمل، تضطرب الزوجة، فتسأله عن الأمر.
يجيبها, بأنه كلما ذهب ليرى من في الباب, لا يجد أحداً، إنه أمرٌ غريبٌ حقاً.
فتخبره الزوجة : ولكنّ أحداً لم يطرق الباب.
فيجيبها الزوج : هذا هو الغريب، فعندما أفتح الباب, لا يكون هناك أحد,.. إن أحداً لم يطرق الباب.
فتسأله الزوجة : لماذا إذن تذهب إلى الباب, وتفتحه, وتنظر إلي الخارج ؟.
فيقول لها الزوج : لا أعرف، ربما يكون أحدهم قد طرق الباب دون أن نسمعه، فمن غير اللائق أن يأتي شخصٌ لا نتوقعه, ويطرق الباب, ولا نسمعه, فلا نذهب لفتح الباب له، لابد من احترازنا.
يُكمل جملته الأخيرة، وينهض متوجهاً ناحية الباب، يفتحه, وينظر إلى الخارج, فلا يرى أحداً.
يغلق الباب, ويعود إلى جريدته, والزوجة تتأمله في ذهولٍ, ويداها مشغولتان بخيوط الصوف, والإبرتيّن الطويلتيّن.
وبعد برهةٍ, تبدو الزوجة كما لو أنها تكتشف الباب لأول مرة، تتأمله قليلاً، ثم تضع الإبرتين, وخيوط الصوف جانباً، وتنهض متوجهةً ناحية الباب، تفتحه, وتنظر إلى الخارج, فلا ترى أحداً.
تدخل, وتغلق الباب, وتعود إلى صوفها, والإبرتين الطويلتيّن, وتواصل العمل.
فيما ترمق الباب بخفرٍ, واحتراز.
( الوحيد وحده ـ قاسم حداد ـ صحيفة الراية القطرية ـ 10 أكتوبر 2007).

******

تتجاوز مدلولات نصّ الشاعر البحرينيّ قاسم حداد بساطة حدثٍ يوميّ اعتياديّ تعيشه شخصيتان, وتستدرج القارئ ذهنياً إلى ما لانهاية من التصورات.
ويأتي السيناريو الأدبيّ الذي كتبه الناقد السينمائيّ حسن حداد أميناً في نقل تفاصيل الحكاية المُقتضبة, وأجوائها المُغلفة بالوحدة, ويمنحها دفقاً جديداً من الشعرية بإضافاتٍ عديدة كانت مُضمرة في ثنايا اللغة المكتوبة, ويضعنا في أجواء بعينها, خاصية الصورة السينمائية :
فناء بيتٍ قديم, قفصُ معلقٌ على الحائط, أغنيةٌ عربيةٌ قديمة, مذياعٌ قديم الصنع, زوجان متقدمان في العمر.
ويبدو بأنّ المخرج البحريني محمد راشد بوعلي يعرف تماماً تفاصيل المنزل الذي صوّر فيه فيلمه القصير(غياب), ولهذا, فقد استوحى منه تفاصيل أخرى منحت السيناريو التقني (الديكوباج) هيكلاً تغلفه الصور, والأصوات بانتظار تسجيلها, وتشذيبها مونتاجيا.ً
لم يُظهر النصّ الأصليّ طبيعة المكان, محتوياته, وأجواءه, وأضاف السيناريو الأدبي بعض الرموز, والاستعارات (العصفور في قفصه صامتٌ), وزاد عليها السيناريو التقنيّ مفرداتٍ تعبيرية مُوحية, احتفظ الفيلم في شكله النهائي ببعضها (سقوط ورقة ذابلة من شجرة اللوز¸ دوران المروحة, السلالم الخشبية, جدار المطبخ), بينما تبدلت, تسرّبت أخرى, أو اختفت من التصوير, أو المونتاج(الحنفية تنقط ماءً).
في فيلمٍ قصيرٍ بطول 10 دقائق, وبعض الثواني, من المُفيد بأن يحذر مخرجه من التطويل في تقديم العناوين, وخاصةً تلك المُكررة في تترات النهاية.
فقد تخير إظهار عناوين البداية تنمحي مثل غيمةٍ تدفعها الرياح, أو تضمحل كموجات البحر, فكانت النتيجة تحويل انتباه المتفرج عن لقطاتٍ ثابتة, تأملية.
كان هذا الفيلم الشعريّ بامتياز بحاجةٍ إلى الصمت الذي أفسدته ضربات بيانو, ورعشات عود, الصور وحدها كافية للتعبير عن الغياب :
الجدران الكالحة المُتشققة, الزوايا المنسية, أوراق الشجر المُتطايرة, أنابيب المياه المُتكلسة, الحيطان الخشنة, الباب الهرم, الألوان الزرقاء المُتهالكة, السلالم الخشبية, المياه الراكدة, المروحة الصدئة المُتكاسلة, الجريدة المُسترخية فوق الكنبة, والمذياع العتيق...
تلك اللقطات المُتتابعة باستسلامٍ, كيف يكون حالها وهي تنساب بشجنٍ, وحنينٍ مترافقةً مع صوتٍ منخفضٍ لأغنية كلثومية, يعلو تدريجياً حتى اللقطة التي يظهر فيها المذياع القديم.
وعلى الرغم من الزمن الذي غيّر معالم البيت, ما زالت جنباته الحزينة تحتضن رجلاً, وزوجته بعمرهما المُتقدم, وفي هذا الجوّ الساكن, يشغل الاثنان فراغ المكان بحركاتٍ آلية رتيبة :
تطرز المرأة, وإحدى يديها تصعد, وتهبط نحو قطعة القماش في اليد الأخرى, ويقرأ الرجل في جريدة(أو بالأحرى يتصنّع القراءة), ويصغي إلى صوت أم كلثوم يعلو, وينخفض وُفق حالات الانتظار/الغياب التي يعيشها,
ـ يا ما كنت أتمنّى أقابلك بابتسامة, أو بنظرة حبّ, أو كلمة ملامة, بسّ أنا نسيت الابتسام, زيّ ما نسيت الآلام, والزمن ب ينسّي حزني, وفرحي يا ما....
تتساقط الأوراق المُصفرّة لشجرة اللوز, ورقةً, ورقة, وكما المعنى الرمزيّ لها (الخريف, تقدم العمر, السقوط, الاصفرار, الماضي, الحنين,..الموت), فقد كانت أيضاً مرجعاً إيقاعياً بصرياً للفيلم, ومحتواه, فمع كلّ ورقة ذابلة تسقط في صحن الدار, يمضي الوقت مُعانداً, ويصبح الغياب أكثر وطأةً, والماضي أطول امتداداً من المُستقبل.
العصفور السجين في قفصه لا يغرد, صامتٌ, مذهولٌ, ضجرٌ ربما.
لم يكن شريط الصوت في الفيلم بحاجةٍ إلى أيّ موسيقى (دخيلة/مؤلفة خصيصاً), كان عليه الاكتفاء بما تحتويه الصورة من عناصر صوتية : الأغنية, وضجةٌ بعيدةٌ قادمة من الحارة.
صحيحٌ بأنّ المُؤثرات الصوتية المُعبرة عن الجوّ العام (ماعدا أجواء الحارة خارج الدار) تقلصت إلى حدّها الأدنى, ولكن, كان من المُفيد الانتباه أكثر إلى البناء الصوتيّ للفيلم, وبشكلٍ خاص, مستويات ارتفاع, وانخفاض أغنية أم كلثوم, ولم يكن هناك أيّ مبررٍ جماليّ, أو دراميّ للشوشرة عليها بموسيقى تصويرية إضافية مؤلفة, وكان بالإمكان انطلاقها, وتحقيق تأثيرها الأقوى مع اللقطة الأخيرة(عندما يقرأ الزوج جريدته, والزوجة تطرز, وبين الحين, والآخر تزوغ عيونهما نحو الباب), وتستمر مع ظهور العناوين الختامية للفيلم .
وهنا, فإنّ حضور موسيقى مؤلفة, دخيلة, يُناقض محتوى الفيلم, ومضمونه في تجسيد فكرة عن الانتظار, والغياب.
حالةٌ شعريةٌ, إنسانيةٌ جسّدها الفيلم صورةً, وصوتاً بدون ثرثرة, فكما الحكاية, يأتي الحوار مُقتضباً, مُركزاً, وناجعاً :
الزوج : غريبة, كلّ ما أروح أشوف مين عند الباب, ما ألقى أحد !
الزوجة : لكن, ماحدّ طق الباب ؟
الزوج : إي, وهاذي الغريب, إن كلّ ما أروح ابطل الباب, يكون ماحدّ طق الباب !
الزوجة : ويه عيل, ليش عيل تروح تبطل الباب, وتقعد تطالع ؟
الزوج : ما أدري, ما أدري، قلت يمكن, يمكن أحد طق الباب, وما سمعناه، يعني بذمتج, لو يه(جاء) أحد, وطق الباب, وما سمعناه, نخليه ينطر برا, يعني بدون ما نبطل له الباب !
وبدءاً من هذا الحوار المُتبادل, تعيش الزوجة نفس الحالة المُؤرقة : الانتظار.
وبنفس الحركات الآلية, تنهض لتتحقق من أنّ أحداً ما لم يطرقَ الباب/طرقَ الباب/أو سوف يطرق الباب. .
في الفيلم لقطاتٌ ثابتةٌ في معظمها, وحركة كاميرا خفيفة, ناعمة, مُسترسلة في بعضها, وسيولة في السرد مونتاجياً, وتلقائيةٌ مُرضيةٌ في الأداء, وديكورٌ طبيعيّ يتوافق مع الفكرة.
وإذا كان الشعر لا يحتاج إلى تفسيرٍ, وشرح, فإنّ الفيلم ينساب في وجدان المتفرج, وعقله بدون إسهابٍ, وينفتح على كلّ المعاني المُحتملة :
الرجل, وزوجته ـ المُتقدمان في العمر نسبياً ـ يرغبا بأن يطرق أحدٌ ما الباب, ليُغير من تلك الأجواء الساكنة في منزلهما.
يشتاقا لزيارة ابن, ابنة, حفيد/ة أو أحد أفراد العائلة.
يطمحا للخروج من المنزل (الذي حسبتُه في بعض الأحيان صندوقاً, على الرغم من الشجرة الذابلة, وأشعة الشمس المُسترخية في فنائه).
حالة الانتظار هذه, هي رغبةٌ ضمنيةٌ بالقبض على الزمن,..
أو ربما قلقٌ, تحسبٌ, وخوفٌ من موتٍ قادم.
غياب, فيلمٌ يغوص في محليته, ويستخلص منها تيمةً إنسانية, يتحاذى مع السينما الإيرانية, يتقاطع معها, ويتأثر بقصائدها الشعرية من الأفلام القصيرة.
وفي هذه المُناسبة, أتذكر الفيلم التسجيلي الإيرانيّ القصير Yek gozaresh é kotah (تقرير قصير), 10 دقائق, من إنتاج عام 1997(أو 1999), وإخراج (مسعود بخشي), وفيه تسكن امرأةٌ عجوزٌ في غرفةٍ متواضعة في الطابق السفليّ لإحدى البنايات, وبين الحين, والآخر, تصعد منهكةً الدرجات المُؤدية إلى الباب الرئيسيّ, تفتحه, وتنظر يميناً, وشمالاً إلى جانبيّ الشارع خارج المبنى, تُغلق الباب, وتهبط متثاقلةً درجات السلالم, تدلف إلى غرفتها, وتعيش وحدتها, وفي كلّ يوم, تكرر العجوز حركاتها الآلية تلك, منتظرةً شخصاً ما, أو مستعجلةً يومها الأخير.

البطاقة الفنية, والتقنية للفيلم :
غياب, إنتاج عام 2008, البحرين, فيديو
إخراج : محمد راشد بوعلي ـ الفيلم القصير الثالث له بعد (بينهم ـ 2007), و( من الغرب ـ 2008) ـ .
سيناريو: حسن حداد عن نصّ "الوحيد وحده" للشاعر قاسم حداد
تمثيل: عبد الله ملك ـ شيماء الكسار
تصوير: عبد الله رشدان
موسيقى: محمد حداد
مونتاج, وجرافيك : محمد جاسم ـ علي نصر
ماكياج : ياسر سيف ـ جعفر غلوم
تصميم البوستر: حافظ بوجيري








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب