الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صفحة من تأريخ البحر

كريم جاسم الشريفي

2008 / 6 / 12
الادب والفن



أضواء المدينة تتلاشى ببطْْء هزيل ،ويتقلص عنفوانها الطاغي على سطح االبحر .أهدابها النافرة تتقوس بالأبتعاد عن أبواب البحر ، والليل ، والثلج على الممرات والصخور السوداء الأزلية لبقايا البراكين التي ضربت هذه الأرض في غابر الأزمان ..لكن لا قيمة لهدب المدينة سواء نافراً كان أو متقوساً على بحر عند الرحيل حتى لو كانت أجنحة لملائكة.. الأضواء المتلألئة بدأت تتكسر باستسلام على موج البحر لتتحول الى خيوط فضية باهتة مثل شيخوخة الأفكار. تهادن الموج قليلاً للجسد القادم من ضفاف البحر التي غادرها خلسةً.. يطفوا الجسد الثقيل بأوزاره على لسان البحر. الطيور المائية مجسات لهذا الجسد ، وحيوانات البحر بوصلة لقوافل العشاق، والمغامرين، والهاربين على هذا الجسد . الجسر الوحيد لنجاة هؤلاء هو الموت وراء البحر ،لان قوارب النجاة لا تصل الى المراسي المرجوه على الشواطئ الوهمية، إذ هذه الطيور تهالكت اجنحنها وجف الدم في أوردتها الرقيقة وشرايينها الناتئة على الجلد .. عندها يصبح التيه هو العنوان الوحيد لهؤلاء العشاق والمغامرين . التية على الماء طعماً للحوت ، ونبتاً للطحالب في قيعان المياه . هذا الجسد العاري إذا احترق يصبح ركام على قاع البحر. توارت بعيداً أجساد القوافل. بعد ساعة من الأبحار تململ الجسد قليلاً ينذر بسوء الطالعِ . الطابق العلوي من الجسد امتلأ بجموع الفارين .. الزاوية المواجهة للسلالم الحديدية وقف الغريب فيها يتأمل المشاهد أمامه،وبجانبه قائد الجسد.عندها وفقت امرأة ضامرة الجسد ،خائرة القوى ،واهنة الحركة، غائرة العينين، مقوسة الظهر قليلاً رغم شبابها الأيل للغروب بسبب نازلة صعبة عاشتها هذه ولم تتخلص منها بعد. تدخن بشراهة لاحدود لها. مرّت بهمة من بين حشود المغامرين ،دنت بصعوبة هامسةً بأذن شخص طويل القامة، عريض المنكبين، فارع الطول ، يكسو الشعر الرمادي فروة رأسه ، يرتدي بدلة زرقاء مرصّعة بالأوسمة ، وعلى كتفيه رتبة فخرية يستعملها البحارة .استمع لها بصمت. ثم أخرجت من حقيبة يدها مظروف ذهبي اللون فيه ورقة قرأ الورقة لبرهة.. تتغيرت ملامحه بسرعة البرق، عندما فرغ من القرأة تماماً تحول شكله فجأةً الى شحاذ بائس بعد أن كان يشبه أميراً اغريقياً منتشياً بالنصر.استسلم لها فوراً بعد أن وهنت قواه ،وتبدل شكله ومظهره.. اوقذت به هذه الشابة المتهالكة أشياء لايستطيع الهروب منه ولا يقوى على التملص من فحواها.هزّ رأسه راضياً وموافقلاُ وممتثلاً . حشرت بعض جموع من القوافل متاعها وحاجاتها في زاوية مهملة على الجسد، والبعض توزع على الطوابق الثلاثة الوسطية للجسد.. جاءوا محمّلين بأكداس من الخشب اليابس والمرأة تأمرهم بالذهاب الى الطابق الثالث عشر للجسد. صادف ان منبوذاً شرقياً مبحراً على هذا الجسد مع هؤلاء الصعاليك يريد ان يجرب التيه على سطح البحر بعد أن تاه مرات في الصحراء الرملية مرةً والحجرية مرة آخرى.وقف ينازعه الفضول لمعرفة هذا المشهد الغريب.. الحشود تكدس الحطب بطريقة منظمة ومرتبة الى ان تشكل هرم من الخشب . والمرأة تتقدم الصفوف زحفاً وبصعوبة . عند منتصف الليل تماماً شكلت الجموع حاجزاً دائرياً حول الحطب ، اخذت المرأة شعلة ودستها بين ثنايا الحطب ، تحول الليل وحلكته الى نهار على الجسد وسط البحر. وقفت تعلن بكبرياء متكسر وبصوت مهزوم يثير الشفقة قائلةً .. هذا الذي تروه تحت الحطب يحترق انه جسد حبيبي.. الحطب يحرق عشيقي الذي اصيب بمرض لاشفاء عنه ولابراء منه..كان قبل يومين يداعب جسدي النحيل ، وقبل أن يموت اوصى بحرق جثته في البحر ومن على ظهر باخرة تنقل المسافرين..بعد ساعة تحولت الجثة الى رماد وسط الظلام ، أخذت بكفها بعض من الرماد وقذفته في عيون البحر . رتّل المودعين صلواتهم بخشوع ورهبة .. دنا المنبوذ الشرقي من المرأة هل عشيقك كان بوذي الديانة ؟
لأ! هل هو من طائفة الهندوس؟ لا.. نحن لا دين لنا ولا نؤمن بالرجعة .. ولكن نقدس وصية الميت. هل أنتم تحترمون وصايا موتاكم سالته؟ نعم كنا نقدس وصايا الموتى منا.. لكن الآن لاأحد يقدس وصية الميت بسبب كثرت الموتى .اضافة الى إن أغلبهم لايعرفون القرأة والكتابة .. الكل بدأ يهّم بالعودة الى مكانه ..لكنها أستدركت قائلةً للجموع أرجوكم الحضور غداً صباحاً الساعة السابعة للوداع الأخير. وأوصت قائد الباخرة أن يُخبر الجميع بمكبرات الصوت أن يكونوا حاضرين للوداع الأخير.. توجهت الجموع صباحاً احتراماً للعاشق الميت للألقاء الصلاة الأخيرة على رفاته الذي تحول الى رماد على موج البحر .. الموج كان عالياً في الصباح اغلب المسافرين خضّر على ظهر الجسد صباحاً ، الجموع ـ قائد الجسد ، الشرقي المنبوذ .. أثنت المرأة على نبل وشرف كل من ساهم لتطبيق الوصية أو شارك بتنفيذها. دنت الى الحافة من حدود الجسد .. قذفت نفسها من أعلى الجسد الشاهق الى قعر الماء .

كريم جاسم الشريفي / فنلندا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت


.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً




.. سكرين شوت | إنتاج العربية| الذكاء الاصطناعي يهدد التراث المو


.. في عيد ميلاد عادل إمام الـ 84 فيلم -زهايمر- يعود إلى دور الس




.. مفاجآت في محاكمة ترمب بقضية شراء صمت الممثلة السابقة ستورمي