الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يا زمان الشعر... في أسيوط

خالد الكيلاني

2008 / 6 / 13
الادب والفن



في عام 1979 كانت بداية النهاية لعصر أنور السادات، كان قد فرغ لتوه من كامب ديفيد، وتفرغ للتنكيل بمعارضيه، هامش الحرية الصغير تم التراجع عنه، السجون فتحت أبوابها ليساريين من كل لون بتلفيق قضايا سياسية يحبسون على ذمتها لعدة شهور دون أن تحال قضية واحدة للمحكمة، والأمن اخترق أسوار الجامعة وصادر أي نشاط سياسي للطلاب، وما أفلت من يد الأمن تكفلت به الجماعات الدينية المتطرفة الصاعدة وقتها.
بعض الطلاب اليساريين انصرفوا عن ممارسة السياسة، وبعضهم غاص مع تنظيمات سرية تحت الأرض، والبعض الأخر ممن أدركتهم حرفة الأدب وجدوا في الشعر ملاذاً أمناً لممارسة السياسة، وكنت من هذه الفئة الأخيرة، وكان ملاذنا هو نادي الأدب بقصر ثقافة أسيوط الذي كان يومها ملئ السمع والبصر، كان هناك درويش الأسيوطي زعيم الشعر في أسيوط، ذلك الفنان الشامل الذي يكتب الشعر والزجل والأغاني والمسرح والقصة ويمثل ويخرج أيضاً، وسعد عبد الرحمن الشاعر الرومانسي (وكيل وزارة الثقافة حالياً)، والساخر الكبير عزت الطيري الذي ما زال حتى الآن يكتب الشعر ويؤلف النكات، ومصطفى رجب (عميد كلية التربية بسوهاج سابقاً) صاحب أقصر قصيدة في التاريخ، والذي ظل يراسلني حتى أصابه اليأس مني فتوقف، والقاضي "المنياوي" يحيى عبد القادر ( رئيس محكمة الاستئناف حالياً ) الذي كان يكتب أروع قصائد عامية، والمهندس الزراعي عبد الرحمن محروس الذي لم يكتب سوى قصيدة أو اثنتين وتوقفت قريحته فانتقل من مديرية الزراعة إلى قصر الثقافة مشرفاً على نادي الأدب ليشتري من سعد عبد الرحمن وعزت الطيري قصائدهما لقاء "علبة سجائر بلمونت" عن كل قصيدة بحجة "تنويع مصادر الشعر" كما قال، وعندما عوتب في ذلك قال بيتاً لشاعر قديم يقول فيه: "ولما رأيت الشعر في الناس فاشياً ... تشاعرت حتى يطن الناس أني شاعر"، والشاعر الصيدلي جمال فرغلي الذي كان وما زال يكتب شعراً مبهماً، وكثيرين غيرهم لا تسعفني الذاكرة بهم الآن.
كنت تقريباً أصغرهم سناً، وتعلمت منهم الكثير، وكانت ندوة الأربعاء من كل أسبوع التي كان يديرها درويش الأسيوطي مدرسة حقيقية لصقل الموهبة ومناقشة الكتابات الجديدة وتعلم العروض والقافية، وتذوق موسيقى الشعر. وانتشر صيت النادي في مصر كلها فجاء إليه في أسيوط الشعراء طاهر أبو فاشة وفاروق جويدة (الذي نشر لي أول قصيدة في الأهرام عام 1980) وأحمد سويلم وأحمد عنتر مصطفى ويسري العزب ونصار عبد الله وفؤاد بدوي ومحمد أحمد العزب وعبد الستار سليم وغيرهم، وانتشرت قصائد شعراء أسيوط المغمورين على صفحات مجلات عربية رصينة، ونشرت ملفات نقدية حول إنتاجهم الشعري بأقلام كبار النقاد على صفحات كثير من الدوريات الفصلية المتخصصة.
كان زماناً جميلاً للشعر في أسيوط، ولكنه لم يكن كله كذلك، فقد طاردت مباحث أمن الدولة النادي وحاولت إغلاقه مرات عديدة، ومنعت مديرية الثقافة إصدار مجلة النادي "لقاء" عدة مرات، ومنعت أسماءً بعينها (منها كاتب هذه السطور) من النشر فيها مرات أخرى، وكان مدير مديرية الثقافة في أسيوط (صلاح شريت) رجلاً طيباً، لا يستطيع أن يرد طلباً لأمن الدولة أو لمحافظ أسيوط (وقتها ) محمد عثمان إسماعيل، وتحت ضغوط أمن الدولة والمحافظ أوقف المجلة تماماً وبدأ في حضور الندوة الأسبوعية ليقوم بمراقبة القصائد بنفسه، مما جعل سعد عبد الرحمن يطلق عليه أسماً حركياً ظل متداولاً بين مجموعة صغيرة في تلك الأيام هو " أبو الحجاج بن يوسف الثقافي".
في خريف 1981 اعتقلت في حملة سبتمبر الشهيرة، وكانت المضبوطات التي أخذت من بيتي أربعة قصائد وثلاث كتب قديمة منشورة وعلنية، وتلقيت في السجن وبعد خروجي منه مكافأتين كبيرتين، الأولى قصة قصيرة بعنوان "أنقذوا زينب" كانت أول قصة أكتبها ... ونسيتها، فأرسلها الصديق المستشار يحيى عبد القادر لمجلة القصة الفصلية ونشرت مع احتفاء نقدي بها في أكتوبر 1981 بينما كنت في إحدى زنازين سجن المزرعة، والثانية بعد خروجي من السجن بعدة شهور وفي عام 1983 عندما استضافنا فاروق شوشة (درويش الأسيوطي وسعد عبد الرحمن وأنا) في برنامجه التليفزيوني الشهير "أمسية ثقافية" مع الشاعر والناقد الكبير د.نصار عبد الله في أول حلقة من نوعها تخصص لشعراء شبان في هذا البرنامج.
تفرقت بنا دروب الحياة، وتركت أسيوط وناديها وجلسة الأربعاء، ومن يومها توقفت عن كتابة الشعر إلا النذر اليسير، مما يثبت أن الممارسة أهم من الموهبة، وأن أي موهبة لا تصقلها الممارسة تصدأ مع الزمن وسرعان ما تنزوي وتموت، وهو الأمر الذي يدركه جيداً سدنة السياسة والثقافة والصحافة والعلم في بلادنا فيبعدون أي صاحب موهبة أو مبدع عن المجال الذي يمكن أن يبدع فيه، حتى تخلو الساحة لهم ولأنصاف المثقفين، وللذين يخاصمهم الإبداع، ولمن لا يصدقني فلينظر لتليفزيون الحكومة وصحف الحكومة ومثقفي الحكومة ووزراء الحكومة، هل هناك ثمة إبداع ... لا أعتقد.
تفرق الجميع وبقي من فرسان النادي درويش الأسيوطي عميد أدباء أسيوط المعاصرين الذي لم تفلح القاهرة في إغرائه أو غوايته في يوم من الأيام، وظل وفياً على العهد مع أسيوط ... ونادي الأدب، مثابراً على تخريج أجيال جديدة من الكتاب والأدباء، ومثابراً على كتابة الزجل والأغاني والمسرحيات والإخراج للمسرح والتمثيل على خشبته وكتابة الشعر حيث صدر منذ أيام عن الهيئة العامة للكتاب أخر دواوينه "الاعتراف الأخير".
والأربعاء قبل الماضي احتفل درويش ورفاقه بمرور ثلاثين عاماً على إنشاء نادي الأدب بأسيوط، ودعاني لهذا الاحتفال، ولكن ظروفي حالت دون تلبية الدعوة، فأرجو أن يسامحني، وأن تكون هذه الكلمات قد أوفت بعض ما علي من دين لدرويش وللنادي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنان إيطالي يقف دقيقة صمت خلال حفله دعما لفلسطين


.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز -ديدي- جسدياً على صدي




.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو