الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سوق الفن السنوي في بازل وسؤال الوعي

يوسف ليمود

2008 / 6 / 15
الادب والفن


رجع حزيران على مدينة بازل بسوقه السنوي الآرت فير التاسع والثلاثين، الأكبر والأشهر في أوروبا. عام كامل كدائرة رسمت بطباشير على أفق لاهث: "تولع حروب وتنطفي حروب"، حكومات تسقط "وإمبراطوريات ترفع أعلامها في الوحل المعجون بالدم"، ومؤسسات فنٍ غامضة تنسج بذكاء في قميص العولمة، ومغازل فن تدور على قرون ثيران الحداثة. في كل لحظة وحدث، يمر عام طباشيري، قياسا على اللحظة نفسها أو الحدث في دورته الفلكية، فهل للزمن وجود؟ لكنها مناسبة لتبييض كتاب الذاكرة وما كسبت يمينها في حول، فردية كانت أو ما تسمى بالذاكرة الجمعية. وطالما تستحيل تغطية حدث ضخم كهذا، في تفاصيل محتوياته الفنية، فليكن التأمل العام، من منظور طائر، هو المحاولة والبديل، ولتكن الأسئلة بنكنوت هذا الحساب المفتوح ولو من دون فوائد، فالسؤال ينقذ صاحبه ولو ظل إلى النهاية من غير جواب. وكما تحتاج الحياة في كل مرحلة من سيرورتها إلى إعادة تقييم القيم (حسب التعبير النيتشوي)، ففي سوق للفن أكثر بذخا من مروحة طاووس مفرودة، يكون الانسحاب إلى جنبات الجمجمة الذاتية لـ "تفنيط" أوراقها واجبا لإنقاذ ما يمكن من خلاياها الإبداعية والحفاظ على رقعة ذلك الممكن شفافة، ولو بين المرء ونفسه حالَ استحال على الآخر - أي الخارج، المستربِح حتى من ندى الفجر، أن يتفاعل معها بشفافية مثلها، فالقيمة هنا لا علاقة لها بالقيمة كما تفهمها الطبيعة الفنية، والحسابات هنا لا علاقة لها بالحسابات كما تعرفها لوغاريتمات الرياضة الفنية، والروح هنا لا علاقة لها بالروح التي وهبتها الطبيعةُ ذلك الكائنَ القوي الهش ذا البأس القابل للكسر الطيب الشرير الرقيق العنيف الرفيع المتواضع المتوحد المنقسم البللوري المعتم المبارك الملعون المدعو فنانا.

بورك في زناد سؤال يفتح رشاشا من استفهامات وعلامات تعجّب: عمّ يتفننون؟ ماذا يقول الخطاب المعاصر في خلاصته؟ ما علاقة الفن بالوعي، أو ما دور الوعي في الفن؟ والوعي بماذا، أو الوعي في أي اتجاه؟ وماذا أو من يتحكم في ذلك التوجّه؟ ما دور المؤسسة التي تستقطب، وما دور التاجر الوسيط، وما دور الذوق العام في أرجحة دفة الفنان والحياد بمسارها عن مسئوليته الوجودية التي ألقيت أمانة على عنقه؟ ومن الذي في النهاية يحدد القيمة وبالتالي الذوق؟ وما هو معيار القيمة؟ هل تقاس بالزمن المتاح أم باللازمن المتوجهة إليه الأشياء والخلائق في صيرورة غبارها؟ هل انتهى زمن الفنان النبي؟ وماذا يمكن أن يفعل ذلك النبي الذي أسقطت الحداثة عنه القداسة إن وجد؟ هل استعاضت الحداثة، أو بالأحرى أساطين البرجوازية، من مؤسسةٍ إلى سمسار، ذلك الكبير، في شمولية وصفاء رؤيته، بآخرين يُعمي لمعانهم الظاهري العينَ عن إدراك انطفاء أرواحهم وخوائها؟ من أين تخرج أشكالهم، ومَن يخاطبون، وفي أي مرمى يشوطون كراتِهم المنفوخة حد الانفجار؟
تأخذني الكلمة الأخيرة بالمصادفة للسؤال: هل من علاقة بين الفن وبين نظرية البيج بانج؟ هل من أصداء غامضة وغائرة في أعماق الحركة والحدث وبين نشوء الحياة في فكرة ذلك الانفجار المفترض؟ هل يجب أن يكون الفن صراخا كي يسمع، أم أنه اهتزاز لا يكاد يُرى في جدول ماء رائق؟ وما موقع هذا اللغط الجميل من الصرير الكوني؟ لو أن جهازا عبّأنا فيه شحنة الحاضرين، الغارقين المستغرقين في لحظتهم، وكبسناها في رأس سهم نطلقه من قوسه، في أي دائرة من دوائر القرص الوجودي ينغرس السهم؟ أم تراه سيحيد بمغناطيسية شحنته بعيدا عن الهدف كسهم طائش؟

حكى لي صديقي العائش في نيويورك عن عرض شاهده قبل أيام لفنان صيني شاب، وعن ضخامة التجهيزات التي يمكن أن تقيم مدينة في صحراء، فيها الممرات العلوية ومساقط الرؤية المحسوبة بدقة فوق كتل من الأسمنت مروعة الحجوم، رسم الصيني على مسطحاتها، برماد البخور المتنوع الدرجات والملمس، وجوها، بدقة تفوق الفوتوغرافيا، في طقوس لا تخفى على ذي البصيرة تلحّسها واستحلابها أثداء روحانيات ثقافته سليلة كونفوشيوس. منظر كهذا تفوح منه راوئح الاستعراض والقوة ومحاولة إشعار المتفرج بضآلته أكثر مما تفوح منه رائحة بخور الزهد والتقشف. فهل تُستخدم مساحات الازدواجية المتأصلة في الطبيعة لتقول خطابا بنقيضه مثلما تروّج بعض الفلسفات الدينية المشبوهة لإطلاق الغريزة تحت مسميات الروحانية مثلا؟ فليفعل كلٌ ما يرغب في حدود المسميات الحقيقية لفعله. لقد تفنن آلهة وملوك الزمن القديم في تضخيم أبعاد العمل الفني لإشعار الفرد بصغر حجمه وبالتالي بعبوديته، فراعنة مصر نموذجا! لكني الآن ذهبت بعيدا، ولا ينبغي أن أبرقش ورقتي بعلامات استفهام أكثر، يبدو منها، ويا لخشيتي، أنني ضد المعاصر، في حين أن انتقاد منظر ما لهو دليل الغيرة عليه لا الحنق، الاستغراق فيه لا النفور منه. إنها مسألة السياق وآليات الاستعمال في الأخير. لقد دخلت إلى الحدث وانسللت منه لأدخن كعادتي في الساحة الرئيسية في الميدان، ولي عودة في ساعة تخف فيها الأرجل لارتشاف ما يلمسني من جمال أو فكرة.
أجلس على حافة مستطيل مائي طويل، أنتظر جارتي الصغيرة تأخذ وقتها في التفرج بالداخل، الحوض يتوسطه جرّافة معدنية رقيقة التشكيل، تدفع الماء بإحساس لاعب وحوار حب، وتتراجع ببطء لتعاود فعل الزقّ وملاحقة المويجات والزبد، هو أحد الأعمال الفنية التي تغير الإحساس بمعنى النافورة المألوفة. أمامه مباشرة، وعلى أرض خشبية زرعت فيها كتل لوجوهٍ من صلصال، كاريكاتورية الشكل والتعبير، كأنها تحويرات لكائنات سمكية لديها مشروع التحول إلى بشر (بسبب لوثةٍ أصابتها ربما). وفي ركن هناك، شجرة فضية مقلوبة على فروعها الخالية من الأوراق وجذرها في السماء، في أي فصل من فصولها المعدنية تكون، وهل تأتي أزمنة الصفيح بأي أ ُكُل؟ وفي الجوار من محطة الترام، وردة هائلة بارتفاع خمسة أمتار تقريبا، وكما تعلمون فإن "الوردة هي وردة هي وردة"، حسب جيرترود شتاين.

طافت عيني بسرعة على جسم أخضر كبير، أظن البوليستر خامته، تمددت خطوطه وزواياه الحادة في الاتجاهات كلها لتستحضر في الوهلة الأولى جوا حربيا غامضا قابضا، وفي الثانية تذكّر بمركبة فضاء غامضة كذلك ومقبضة، ربما لا فرق كبيرا بين الفكرتين إذ تحركهما الأيديولوجية نفسها والهدف: السيطرة. لكن الأكثر رقة بين تلك الأعمال التي يبللها الآن رذاذ منعش، هو تلك الدائرة الزجاجية المنصوبة، بقطر خمسة أمتار وارتفاع مترين تقريبا، على ممشى خشبي، تحسبها فراغا كامل الأبعاد في الداخل قبل أن تجتاز مدخلها الصغير، لتكتشف أنك مفصول عن الآخر الذي دخل من المدخل نفسه دون أن تشعر بالزجاج الفاصل، فإذا بينك وبينه في المركز حاجز غير مرئي لبلوريته، لا تراه إلا حين تصطدم به أو تكاد، كم الفكرة واقعية وبليغة، فالحواجز في دواخل البشر أنفسهم!
ولكن كيف أقنع جارتي التي لم تكمل عامها العشرين بعد أن القبلة المعلقة في الهواء بيننا أجمل من كل ما رأته اليوم وما سوف تدرسه من كتب؟

يوسف ليمود
[email protected]
النهار اللبنانية

رابط لمقال عن الحدث في عامه الماضي:
http://www.doroob.com/?p=18668








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا