الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانتهاكُ في بناء الجملة الشعرية.. قراءة في مجموعة - ينهض في يديه النهر - للشاعر بسام علواني .

رامي أبو شهاب

2008 / 6 / 16
الادب والفن


يحتفي الشعر بمقولة أنه دائم التنوع وزئبقي الشكل، كونه منحسرا عن المعنى الأحادي وعصيا على الثبات، وضمن هذه السقوط الدلالي الحر يجترح الشعراء نصوصهم في لعبة تقويضية، تقتضي منهم محاولات مؤالفة الغريب، وتغريب المألوف. ودوما وأبدا، تبقى اللغة مثار الإشكالية الشعرية، فهي الرهان الأول والأخير، وهي الأداة الأساس في اجتراح المقولة الشعرية التي لا تنفض بكارتها إلا ضمن طقس أفقي يعمل على انتقاء مفردة تجاور مفردة أخرى لاصطناع المعنى، كما نص على ذلك- قديماً- عبد القاهر الجرجاني. والمعنى في ذلك في حيرة من أمره أن يكون قريبا، أو بعيدا. هذا التجاور المتعسف الذي يسعى الشاعر نحوه مواضع التركيب اللغوي المشتت ظاهريا، ولكن المقصود باطنيا لخلق تكوين تخييلي مفتعل لإثارة التحفيز الجمالي في البناء النصي، والذي لا محالة هو هدف منشود على الرغم من التثبيت المرتهن للمعنى في أروقة النص، وكل ذلك مناط بالمتلقي الذي تقع على عاتقه عملية إعادة إنتاج النص. الشاعر المحتفي بالدلالة والمقتصد في المتلقي، هو شاعر خطير كونه يراهن على أدواته الشعرية في مواجهة حكم سائد ومتعجل، يمارسه المتلقي في مواجهة النص، وغالبا ما يُجار على النص ضمن أوركسترا المتلقين في البصمة الانطباعية الأولى للتماس بين النص والمتلقي، فيعمل (المبدع) على تحدي الاستراتيجية وهي - شروط تلقي النص - الواجب توافرها لدى جمهور المتلقين وفي هذه الإضاءة النقدية نعمل على تتبع هذه العملية تطبيقا على مجموعة الشاعر السوري بسام علواني أحد أعضاء جماعة قلق الشعرية. وقد آثرت الوقوف على هذه الجزئية باعتبارها ظاهرة أسلوبية، ولاحتمال نصوص بسام علواني قراءات متعددة تحتاج إلى الكثير من الاشتغال على أكثر من مستوى وإلى أكثر من دراسة .

الشاعر بسام علواني في مجموعته الشعرية «ينهضُ ...في يديه النهر» يمارس هذا الارتقاء نحو تعالٍ مقصود على المتلقي في الجملة الشعرية، والتي هي مثار هذه المقالة المحدودة، فمشكلة القراءة كما يرى تودوروف تتلخص بسؤال مفاده كيف يقودنا النص إلى بناء عالم تخييلي؟ من منطلق غايتي التي تقتصر على معالجة هذه الخاصية في مجموعة شعرية كاملة، ولا سيما الرغبة في الخروج من الممارسة النقدية الانطباعية التي تتجه نحو الإسقاط الأولي للقراءة، دون البحث ضمن أدوات منهجية تؤسس لحالة نقدية موضوعية، تخرج بنا من ثنائية الموضوعية والذاتية، التي تغلف المتناولات النقدية، والتي غالبا ما تكون ارتجالية ومرتبكة، ولتوخي الموضوعية في قراءة هذه المجموعة الشعرية، فقد استعنت بالدرس الأسلوبي من منظور الانزياح ونظرية الاختيار، بالتجاور مع نظرية القراءة ومفاهيم التلقي وإعادة إنتاج النص. في الصفحات الأولى من المجموعة الشعرية، سقطت في فخ ما أسسه بسام علواني في التعالي الممنهج والمفتعل إزاء المتلقي، حين فقدت النسق القرائي الأمين في تتبع الجملة الشعرية بحثا عن حركة أفقية (خطية) لا تحيد بي عن نقطة أقف عليها للحكم على النص جماليا أولا، وأعني هنا تلك اللذة الشعرية الجمالية التي عدها أرسطو جماليا من مقاصد الأدب وغايته، ولكن تلك الجمالية تبددت في حضرة عدم مؤالفة بين المفردة والمفردة إلا من تهويم موسيقي بقي حاضرا في النهايات السطرية للقصائد، ولنقرأ هذا النموذج حيث يبدو التشتيت الذي يبدو شديد الصلة بظاهرة يمكن أن نطلق عليها التشتيت اللفظي المتعمد:

«وسماط روحي

تستضيف قوافي الإرهاق

عند رصيف نخوته

ويطلق خيله في الذاكرة »

المقطع السابق والذي يبدو أنه موجه لأحد الشعراء وهو عبد الوهاب الشيخ خليل يفتعل بسام علواني من خلاله تلك الرغبة في وضع المتلقي إزاء نص مشتت ضمن التعالقات المفرداتية للجملة الشعرية، فالشاعر يبتدئ المقطع ضمن عبارة «وسماط روحي» والتي تبدو في غير موقعها ضمن بنية افتتاحية لمقطع شعري، لننساق في الغموض الأولي لمفردة سماط والتي تعني الجانب أو المكان الذي يوضع عليه الطعام، ونلاحظ هنا الاشتغال على الصورة الشعرية لتتكاثف عدة عوامل في توليد الغرابة، التي ينفر منها المتلقي اتجاه الجملة الشعرية، حيث أن الشاعر لا يقيم جملته على حشد الصور الشعرية- والتي من ملامحها الغرابة والإدهاش- فقط إنما هو يصطنع بناء الجملة ضمن هذا الطقس الكتابي القائم على التشتيت المقصود، فنحن نطالع هذا البناء القائم على الانتهاك في ترتيب الجملة الشعرية، فالتعارض القائم بين اللغة الشعرية واللغة اليومية هو أحد عوامل إعادة التشكيل للنص الشعري كما أحال « ياوس» في تعريفه لعملية خلق النص من جديد، ونورد هنا نموذجا لهذا التعارض والذي يبدو أنه قائم بين اللغة الشعرية واللغة المتسقة تركيبيا في نص علواني:

«وجه التي يهوى

يرفرف فوقنا

حين استبد بجمعنا

فرش الحصيرة كنزه»

وتجاوزاً لمقولة الصور الشعرية والتي تقع ضمن المتشابه لدى معظم الشعراء، فإن الشاعر قد دهلز نصه في لعبة لغوية قامت على عملية التقديم والتأخير، فإذا ما أردنا إنتاج المقطع السابق بترتيب جديد يحد من أثر التشتيت المتعمد، فإن السطرين في البداية سيكونان بالشكل التالي أو ضمن الترتيب التالي :

يرفرفُ فوقنا

وجهُ التي يهوى

سنلاحظ هنا ما نتج من تخفيف للتشتت القرائي للجملة الشعرية، إذ تخلصت من الصدمة في الافتتاحية التي بدأت بكلمة وجه لدى المتلقي في محاولته للحاق بالمعنى الذي لا يكتمل إلا متأخرا،حين يقوم بعملية عقلية مهمتها الربط بين (وجه) و(يرفرف) حيث افتعل الشاعر إغرابا متعمدا في الكتابة الشعرية. وإذا كان التقديم والتأخير في اصطناع التجاور اللفظي قائما، فإن بسام علواني عمل على إسقاط متعمد لأدوات اللغة في محاولة منه لخلخلة النص وتعويمه، كما في المقطع الشعري الآتي الذي يبدو أن الشاعر قد أسقط أداة التشبيه (الكاف) رغبة منه في تغريب الألفة المعتادة للمتلقي في التناول الشعري الكلاسيكي لدى غالبية الشعراء الذين يعولون كثيرا على أداة التشبيه (كأن) انطلاقا من امرئ القيس إلى محمد الماغوط، يقول الشاعر بسام علواني :

«ننساب أورقة المعاني

ثم نجلس في نخيل اللفظ

نعمل واحة...»

ومرة أخرى فإن إنتاج النص يعود بنا إلى بناء جديد، إذا ما وضعنا أداة التشبيه (كأن) بين مفردتي (ننساب) و(أورقة) فتصبح الجملة الشعرية كما يلي : ننساب (كأورقة المعاني) ولعل هذا البناء الجديد يضفي على المتلقي إحساسا بالأمان بأنه يمتلك ناصية القراءة التي سرقها منه بسام علواني متقصدا. و ضمن البناء الهادف إلى اختلاق الغرابة والكسر بين المنتج للنص أي الشاعر والقارئ أي (المتلقي) إدخال أل التعريف على الفعل، وهو هنا انتهاك لغوي متعمد كما مارسه الشاعر انسي الحاج أحد أشهر شعراء قصيدة النثر، الذي عرف عنه هذا التوظيف، ومن الأمثلة على ذلك قول الشاعر بسام علواني :

«كلما فجر أطال وقوفه

في حضرة أل ( هبوا إلى صلواتكم )

في صوته الحاني»

ونلحظ كذلك في المقطع السابق اختراقين نحويين متعسفين في البناء التركيبي للجملة الشعرية، حين عمل الشاعر على إدخال (كلما) على الاسم والأصل أن تدخل على الفعل الماضي و(كلما) عبارة : عن «كُل» دَخَلَتْ عليها «مَا» المَصدَرِيَّةُ الظَّرْفِيَّةُ وقيل «مَا» نَكِرَةٌ مَوصُوفَةٌ بمعنى وَقت فأَفَادت التكرَار كما في قوله: (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا) الآية «25» من سورة البقرة «2» ، ولعل القراءة الجهرية للمقطع السابق ستحدث الكثير من التشتت والإغلاق على المتلقي الذي سيسقط تحت تأثير موجات الانزياحات والانحرافات المنهمك فيها بسام علواني، عوضا عن تعاليه والتجائه لتفعيل النص بالاتكاء على حشود من الصور الشعرية المتلاحقة والمتداخلة والمزدحمة في البنية النصية، والتي تبدو مثقلة بما يعكر صفو المتلقي الباحث عن حالة انفعالية هي- أعتقد- برأيي غاية لا بد منها في الشعر على الرغم من الاختلافات في هذا التوجه لدى جمهور النقاد، فالمتلقي من ضمن واجباته العمل على فك الالتباسات وتوضيح التلميحات وإلى حد أحيانا قلب المقاطع أو ملء الفراغات أو الخانات الفارغة على حد تعبير «ميشال اوتن» كما في المقاطع الشعرية التي أتينا عليها سابقا. إن نصوص بسام علواني تفيض بهذه الخروقات التركيبية، ولعل المتلقي لن يعدم توافر الكثير منها في معظم النصوص الشعرية ولكن لا سبيل للوقوف عليها في هذه العجالة النقدية. اللذة الشعرية التي نعتقد أننا فقدنا توافرها في نصوص بسام علواني هي حاضرة، ولكن تحتاج إلى الولوج أكثر في القراءة الأفقية (الخطية) للنص، فكلما ابتعدت كثيرا في تقليب الأوراق اتخذ النص وقعا لدى المتلقي، الذي يدرك سر اللعبة ضمن تقنية القراءة المتأملة والمتأنية لا على نسق «ولا تقربوا الصلاة». فالمتلقي يبدأ في تفعيل البناء الواجب توفره لديه في تحليل شفرات النص اللغوية، وليعمل على فهم أثر تلك الانتهاكات اللغوية والتركيبية في الجملة الشعرية مضافا إليها تحليل الصور الشعرية الدافقة في النسيج اللغوي، وبناء مقولة ثقافية أو أيديولوجية تغلف العمل الشعري في قراءة متعددة الاتجاهات صوب المحيط، والبيئة، والمكان، والأنا، والوطن، والمرأة، والقرية، والعائلة، وكل هذه الإشارات الثقافية متوافرة بكثرة في النصوص الشعرية، التي يدججها بسام علواني في عمله الشعري، والذي يحتاج في مجمله إلى آلية قرائية تقوم على ثنائية المقروئية والإبهام، حيث تعمل مقروئية القارئ على كبح عناصر القراءة، في حين أن عناصر الإبهام تثير إبداعاته وذاكرته الثقافية كما يرى فيليب هامون، ولذلك فمن الأجدر أن يواجه بسام علواني متلقيا حاذقا جلدا في تجاوز فكرة اللذة السريعة والمختصرة، والتي لا تحضر إلا على مشارف نهاية المجموعة، التي تتجه نحو صعود لحالة من الاكتمال الشعري، والذي يؤتي أكله في حضور شعري طاغ بعد أن تتم المصالحة بين الشاعر والمتلقي، حين يدخل فضاء الشاعر أو يدخل الشاعر فضاء المتلقي، كما في هذا النص الشعري المتصاعد شعريا ضمن بناء متوازن من حيث الجملة والصورة الشعرية الخلاقة. ونسوق المقطع التالي الختامي تتويجا لشاعرية علواني العصية على الإدراك ظاهريا:

أعيدي لي العشب ناياً

لأرعى عليه خراف القصائد

أقمر كهف الغناء

ليبعث وجهي،

ويستيقظ الآن هذا الإياب

أطيلي الوقوف، وغني

عساني أرفرف

فوق المراعي هديلا

يعيد الوعول

عشب صدري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش


.. -إيقاعات الحرية-.. احتفال عالمي بموسيقى الجاز




.. موسيقى الجاز.. جسر لنشر السلام وتقريب الثقافات بين الشعوب


.. الدكتور حسام درويش يكيل الاتهامات لأطروحات جورج صليبا الفكري




.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس