الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البيولوجيا والثقافة دموية القسر و عبثية الفصل

منذر بدر حلوم

2004 / 1 / 19
الطب , والعلوم


    يتناول عالم الأحياء فرانسوا جاكوب , حائز جائزة نوبل للطب , في عمله ( لعبة الممكنات . بحث في تباين الحي) , أهمية التباين الحيوي وضرورة الاختلاف لخلق كائن جديد , معرّيا النظرة القائلة بأساس وراثي ثابت يحدد المقدرات الذهنية , ويكون أساسا لتصنيف الشعوب وبالتالي للأيديولوجيات العنصرية التي تقول بتفوق عرق على آخر , تفوقا لا يمكن تجاوزه من حيث يكون معطى وراثيا ثابتا تتمتع به بعض الشعوب فتكون قادرة على الإبداع , في حين تحرم منه شعوب أخرى فتكون غبية وعقيمة , كما ينتقد المغالاة في القول بمرونة البيولوجيا .فالبيولوجيا نفسها التي يهيئ ما يخلص إليه بعض دراساتها لتعميمات أيديولوجية , يهيئ بعضه الآخر للنظرة الثقافوية التي تكاد لا تعترف بالبيولوجيا. و قد يكون من أسطع الأمثلة في التاريخ الحديث , على التعميم الأيديولوجي القاتل لمرونة البيولوجيا , صراع الماركسية السوفيتية التي قالت بكائن قابل للتشكيل أيديولوجيا , بصرف النظر عن تباين أساسه الوراثي , مع علم الوراثة الذي يقول بغير ذلك. ونظرا لقوة الحضور التاريخي لمثال التجربة السوفيتية مع علم الوراثة , والليسينكوية القبيحة التي قادت إلى نتائج مدمّرة على الصعيدين العلمي والثقافي عموما , لا أرى أن تناولا جادا للعلاقة المتبادلة بين البيولوجي والثقافي يستطيع القفز فوقه. ففي آب(أغسطس)عام1948 عقد في روسيا المؤتمر الذي اشتهر بـ(مؤتمر آب) , وقام فيه ليسينكو (1898-1976) , بما يتفق مع رغبة الزعيم ستالين , بطرح نظريته المسماة بـ(تعاليم ميتشورين) . وكانت النتيجة أن فرملت هذه النظرية , سنوات مديدة تطور علوم الأحياء , وبخاصة علم الوراثة , في الاتحاد السوفيتي. ولم يتحرر علم الوراثة من تأثير ليسينكو المدمّر , إلا بعد إعادة الاعتبار (للأشخاص وللعلوم) التي أعقبت تقرير خروشوف الشهير أمام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي. ومع العلم بأن ليسينكو كان قد ادعى طرح نظريته السيئة الصيت , على أساس من تعاليم مربي النبات الروسي الشهير ميتشورين (1855-1935), إلا أن الأخير , كما يعرف دارسو أعماله ومعاصروه , لم يعارض قوانين مندل أو نظرية توريث الصفات التي كانت أساسا لإنتاجه أكثر من ثلاثمائة صنف جديد من الفاكهة. وإذا كنا نقف بشيء من التفصيل عند هذا المثال , فلأنه المثال الأكثر بروزا والأكثر بشاعة على قسر العلم والثقافة لخدمة أهداف سياسية , وعلى الدمار الذي يمكن للعقائد أن تلحقه بالعلم والثقافة , مستندة بذلك إلى تطرّف يودي بـ(البيولوجي) , الذي ليس لديه من المرونة ما يكفي للاستجابة للإكراه الأيديولوجي (الثقافي) , يودي به إلى ما هو خارج البيولوجيا , أي إلى الموت. فقد رافق ترويج (نظرية ليسينكو) وأعقبها حملات اعتقال وتصفيات بين صفوف المشتغلين بالبيولوجيا انتهت إلى ما يشبه تصفية علم الوراثة , بتخليصه ليس فقط من المشتغلين به , بل و علميته , حين حرم من طرح الأسئلة التي لا توافق الأيديولوجيا. وبصرف النظر عن الأساس العلمي الذي بنيت عليه نظرة القائلين ببيولوجيا مطواعة تشكّلها الأيديولوجيا كيفما شاءت , فقد كانت الممارسة على الأرض منسجمة مع سلوك لا علمي يتمثل بإقصاء الأرقام الصعبة , الأرقام التي تناقض النظرية وتشوّش عليها. وهو سلوك يقوم به , للأسف , الكثير من مدّعي العلم أصحاب الألقاب العلمية الرفيعة , حيث العلم يافطة يتستر خلفها الجهل , وحيث تُقْسَر المؤشرات والأرقام على فهم ما يريده منها العاجزون عن فهم ما تقول. فثمة دجالون , بل , كما يقول جاكوب , ومعتوهون و أشرار تصادفهم " عند رجال العلم كما عند وكلاء شركات التأمين , عند الكتّاب كما عند الفلاحين , عند رجال الدين كما عند رجال السياسة ".
    إذن , فلما كان من غير الممكن أن تكون مخطئة أيديولوجيا التماثل الستاليني , المدعومة بالأجهزة الأمنية العتيدة و(بنظرية التربية) القادرة على تشكيل كائنات أيديولوجية وفق الطلب , كان لا بد من إقصاء الأنماط (الفكرية) المختلفة ومعها الأنماط(الوراثية) التي تشوش على فكرة التماثل. أمّا في الواقع , فكان ذلك يترجم إلى اعتقالات وإبعاد وتهجير وتصفيات عقلية وجسدية. وربما يكون كافيا أن نذكر , هنا , أن الويسماني صارت , في الزمن الستاليني , تهمة سياسية تودي بصاحبها إلى الجحيم. و كان يكفي لكي تجد نفسك ويسمانيا خطيرا أن توافق على ما خلص إليه عالم الأحياء الألماني أوغوست ويسمان (1834-1914) , أي أن تقول بفرضية حمل الصبغيات (المورثات) للصفات الوراثية و توريثها. علما بأن فرضية ويسمان بقيت دون تأكيد تجريبي , حتى تمّ ذلك على يد توماس مورغان (1866-1945) ( رئيس أكاديمية العلوم في الولايات المتحدة الأمريكية بين عامي1927-1931) , الذي أثبت تجريبيا نظرية الصبغيات وصحة قوانين مندل(1822-1884) الوراثية. و لم يكن حظ مورغان عند الستالينية أوفر من حظ ويسمان , فقد عُدّت منجزات العالمين المذكورين , وغيرها من تلك التي تقول بأساس بيولوجي لا يطاوع رغبات الأيديولوجيا ونزوات السياسيين , عدّت نزعات علمية إمبريالية كاذبة ( مندلية, ويسمانية, مورغانية..الخ.) , وتم التعامل مع العلماء الذين يقولون بها كمجرمين (سياسيين) , طردوا من الجامعات ومراكز الأبحاث وهجّر بعضهم وأعدم بعضهم الآخر, ومن أشهرهم عالم الوراثة فافيلوف.
    وبعد , أفلا يكون فرانسوا جاكوب محقا فيما خلص إليه من " أن كوارث التاريخ , رغما عن الدكتور فرانكنشتاين و الدكتور فولامور , هي من صنع رجال الدين و رجال السياسة أكثر مما هي من صنع رجال العلم " ؟
    بيد أن القول ببيولوجيا قابلة للتشكيل كليا تحت ضغط البيئي الخارجي ومنه الثقافي , أي بـ(الشريط الممغنط) المُعَدّ لأن تملأه البيئة (والثقافة) بما تريد , ما كان يصلح لأن يكون أساسا لعقيدة سياسية مغلقة كالماركسية السوفيتية , لأن من شأن ذلك أن يعادل الاعتراف بثبات الثقافة (الماركسية اللينينية), أي بجمودها. وهكذا تنتهي الأيديولوجيا إلى تحريك البيولوجيا وتثبيت الثقافة.
     أما القول ببيولوجيا متمنّعة كليا على الثقافة , أي القول بدماغ يكون بمثابة (الأسطوانة)الجاهزة التي تسمعك وتريك ما هو مدوّن عليها من قبل الخالق , وإن كان يبدو أنه يأخذ بثقافة متغيرة متحركة , فإنه لا معنى لهذه الحركة أو ذاك التغير , من حيث أنه لا معنى للثقافة ذاتها. و هكذا نكون أمام ثقافة متغيرة و لكنها تكون عديمة المعنى من حيث أنها لا تفضي إلى شيء سوى ذاتها. فتشكل الثقافة بذلك وجودا مستقلا عن الوجود البيولوجي , وبالتالي لا يكون للعقائد التي تقول بذلك , بصفتها ثقافة , معنى أيضا. فإذا كان البيولوجي ثابتا بصفته إلهيا , فلماذا يكون مستقلا , وماذا عساه يكون الثقافي المتغير إذن , أو ماذا عساها تكون الأديان و إلامَ يمكن أن تؤدي والحال كذلك ؟ مع العلم أن البيولوجي هو الشيطاني في الكثير من الثقافات الدينية. وهكذا تنتهي العقائد القائلة ببيولوجيا مغلقة على الثقافي إلى نفي ضرورتها الذاتية. فالجسد ثابت و ثباته مقدس من حيث هو إلهي الصنعة وتافه زائل و مغلق على الثقافة و منفعل بها عبر(ثقافة) الجنس والطعام والشراب ..الخ.. في آن معا , وهو حامل الروح. أما الروح فيراد لها أن تكون على علاقة حميمة بالعقيدة , فتكون والحال كذلك على صلة وثيقة بالثقافة. وهكذا نكون أمام عقائد تصون الجسد الزائل من متغيرات الثقافة و تترك لها الروح , فلا يعود والحال كذلك لثبات البيولوجيا معنى , إذا كان ذلك ممكنا , و هي حاملة روح مفتوحة على ثقافة متغيرة , أي هي نفسها متغيرة. أم أن البيولوجي و الثقافي يلتقي تأثيرهما في الروح , فنكون أمام معضلة يكون حلها بتحميل (الروح) مشكلة البيولوجيا , التي لا تكون إلا مفتوحة على الثقافة. لكن هذا الخيار ينتهي إلى أن تكون الروح مقولة وظيفية بيولوجية- ثقافية , وهذا يتفق ورأي البيولوجيين الذين يرون الروح بمثابة تحقق وظائف الحياة المتغيرة ثقافيا. إلاّ إذا كان هناك من يقول بوجود ثقافي مستقل مغلق وآخر بيولوجي مستقل مغلق هو الآخر و روح إن كانت بالجسد كانت بمغلق, وإن كانت بالثقافة كان الشيء نفسه أيضا , فلا يكون لأية عقيدة دينية معنى.
    وهكذا نكون أمام عبثية القول بنصف دون النصف الآخر , قولا ينتهي إلى إله عضوي معزول مقابل إله ثقافي منفلت في الحالة الأولى , وإلى عكس ذلك في الحالة الثانية , فنكون في كلتا الحالتين أمام إلهين منفصلين وأمام وجودين مستقلين , ونكون أمام مانوية تتجلى دينيا حينا , وسياسيا حينا آخر , وثقافيا في كل الأحوال. وكما في رواية (مائة عام من العزلة) يختلف حزبا ماركيز في موعد الصلاة , يختلف هنا حزب الثقافويين عن حزب البيولوجيين بوجهة الصلاة. ولما كنا في حضرة الأدب ترى مثال ليسينكو الذي سقناه أعلاه لا يشكل مادة للمشتغلين في البيولوجيا وفي تاريخ العلم وفلسفته ونظرية المعرفة فقط , بل للأدب أيضا , فرواية ( الثياب البيضاء) لفلاديمير دودينتسيف توثق لدموية القسر , كما توثق لها قصة فارلام شالاموف (ويسماني).
    أخيرا , إذا كان يؤسس للنظرة إلى الدماغ البشري على أنه (شريط ممغنط) يتلقى التعليمات من البيئة ويسجلها , فلا يكون لمقدرات الإنسان الذهنية علاقة بالبيولوجيا والوراثة , بعقيدة سياسية ترى الإنسان كائنا (طبقيا) و بالتالي (ثقافيا) , فإن النظرة إليه بصفته (أسطوانة) , تقدّم ما دوّن عليها مسبقا , تؤسَس على عقيدة دينية ترى الإنسان كائنا (ربانيا) , ما حياته إلا تعبيرا مختلف الأشكال عما دُوِّنَ فيه لحظة خلقته السماء. ومن وجهة نظر العلاقة المتبادلة بين البيولوجيا والثقافة لا تختلف هذه النظرة , جوهريا , عن تلك , وكلتاهما تقود , عاجلا أم آجلا , إلى دمار المنظومة التي تقول بها.
-انتهى-








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. برنامج جديد | الحرب العالمية الثانية: أسرار من الأعلى | ناشو


.. سقوط منطاد تجسس إسرائيلي يحول الصراع مع حزب الله إلى حرب تكن




.. أعمال شغب واشتباكات بين مهاجرين غير نظاميين من دول جنوب الصح


.. ثروات الجزائر الطبيعية وأطماع بكين




.. تفاعلكم الحلقة كاملة | الجدل الأكبر في عالم السرطان.. فحص ال