الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يا لنا من ضحايا الرقم 3

أحمد جان عثمان

2004 / 1 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


ثمة أشياء طريفة في مقال الشاعر حسين عجيب "الموقف الإيديولوجي بين الواقع والوهم". فقبل التطرق إلى آرائه حول "الفرد النقدي"، وهي آراء على قدر عالٍ من الجدية والتماسك، وجديرة بالمناقشة، أود أن أبدأ بتناول هذه الطرافة.

 [ أولاً ]، يقول: "الهوية صفة الفردية". وكأنه يقدّم هنا اجتهاداً شخصياً لإزاحة مفهوم الهوية من حيّزه الاصطلاحي، إذ خطر بباله، ربما، وهو يكتب هذه العبارة، بطاقة الهوية الشخصية حيث قرأ أن اسمه حسين عجيب، وجنسيته سورية، وديانته مسلم... الخ. ولم يخطر بباله أن السلطات في العالم كله تعنيها هوية الفرد، كالجنسية والعرق والديانة والانتماء السياسي... وذلك قبل أي شيء آخر يتعلق بالفرد كتاريخ ولادته (إن كان سعيد الحظ أم لا، حسب الأبراج)، واسمه ( جميلاً كان أم بشعاً)، وجنسه (لا يهم حتى لو كان خنثى)، وطوله، ولون شعره... إن الهوية، حسب فهمي، هي صفة الجماعة ابتداءً من القبيلة والطوطم وانتهاءً بالدولة الديمقراطية الحديثة والقانون. أما الفرد فصفته الاختلاف وإن كان ينتمي إلى إحدى هذه الهويّات التي ستتلاشى، عاجلاً أم آجلاً، لتفسح المجال لهويةٍ أكثر انفتاحاً وتحقيقاً للفرد. يجدر الإشارة هنا إلى أن عبارة الأستاذ حسين عجيب، "الهوية صفة الفردية"، تقودنا إلى إشكال قانوني مفاده أن أي فرد يتخلّى عن هويته فذلك يُعتبر جريمة يجب معاقبته. على سبيل المثال: المرتدّ في الإسلام يُهدر دمه، خيانة الوطن جريمة كبرى وعقوبتها الإعدام... الخ. لأن صفة الشيء يعني ماهيته أيضاً كقولنا: الحجر صلب، الماء سائل، الأكسجين غاز. ماذا كان يعني جان بول سارتر عندما قال: "الإنسان محكوم عليه بالحرية"؟ كان يعني أن الحرية ماهية الإنسان وصفته اللصيقة به ما دامت السماء خالية من الآلهة. الاختلاف تشرّعه الحرية، في حين أن الهوية هي ضرورة، هي انتماء.

 

    [ ثانياً ]، يقول: "اللغة والأفكار وسائل وأدوات للعيش، تخلو من أي امتياز آخر، شأن الحذاء والمرآة وفرشاة الأسنان". ولكن، ويا للمفارقة، يقود الرقم [3] مجرى تفكيره كله، في هذا المقال، ويمنح لغته انسجامها وانسيابيّتها. وما هذا الرقم، أي 3، إن لم يكن فكرة لها دوام الاستمرار والحضور في أذهان البشر منذ الأزمنة السحيقة إلى يومنا هذا، كرمز من رموز اللا شعور الجمعي حسب كارل يونغ.

   

    تعالوا نقرأ المقال:

 

    "قرأت تعقيب الصديق الشاعر أحمد جان عثمان عدة مرات". أظنه قرأه ثلاث مرات، هكذا قال لي عبر الهاتف بعد أن أرسل مقاله إلى "كيكا" بنصف ساعة. ثم يكتب صديقنا: "يوجد الفرد في ثلاثة مستويات متعاقبة ومتكاملة: الموقع، الموقف، الدور". إنه ينوي أن يزجّ بنا كلّنا، كأفراد، وبغض النظر عن اختلافاتنا، في سجن الرقم [3]، "هذا الرمز المقدَّس أو الأجوف لا فرق". (ما بين الهلالين لحسين). وفي معرض حديثه حول ما يشمل مفهوم الموقع، لجهة الوراثة، لا يعدِّده أكثر من ثلاثة: "الجنس والجنسية والعائلة"، بالإضافة إلى ما يشمله لجهة الاكتساب: "العمل والعلاقات والإنجاز"، أيضاً ثلاثة. ترى، ماذا يقول عن صفات الفرد في طور التحقق عبر الحيّز الواسع للموقع المكتسب؟ ثلاث طبعاً!: "الصدق، الجدارة، المهارة". أما الأمر الأكثر طرافة فهو عندما عدّ المواقع المطموسة في المجتمعات ذي الطغيان حيث تجاوز الرقم [3]: المختلف، الهامشي، المنبوذ... والمسكوت عنه! أظنه أقحم كلمة "المسكوت عنه" في هذا التعداد بغية تفسير كلمة "المنبوذ"، لا أكثر، ثم إنه معجب بهذه الكلمة لأن لها نكهتها الحديثة وطزاجتها! لا بأس، فإن صاحبنا لن يخيّب أملنا إذ يركن من جديد إلى ذات الرقم عندما تساءل فيما يستمدّه الموقف المعارض من موقف الموالاة: المنطق والأسلوب والممارسة. حتى عندما احتاج إلى تشبيه اللغة والأفكار، بوصفها وسائل وأدوات، لم يذكر أكثر من ثلاثة أشياء: الحذاء والمرآة وفرشاة الأسنان! وكم تمنيّت أن يخالف صديقي هذا الرقم في تعداده لشعارات الصالح العام أو لصفات الوجود الواقعي. ولكن، عبثاً، الأولى هي: تسميات وطنية، مصلحة عليا، ضمير الشعب. والثانية هي: الجدّة، المحدودية، العمق. ثلاث بثلاث!

 

    هكذا يتحول هذا الرقم العويص إلى فكرةٍ فلغةٍ عند الصديق حسين عجيب، أو بتعبيره هو: إلى حذاء على رؤوسنا مكان القبعة، وإلى مرآة تعكس صورتنا كمخلوقات بثلاثة أشباح، وإلى فرشاة أسنانٍ لتنظيف ما في جوف أفواهنا من أسنانٍ لا يتعدّى تعدادها الثلاث! وربما يعود سبب ذلك إلى أننا، منذ طفولتنا، نغسل أيدينا ثلاث مرات، وذلك قبل اقتحام الصنبور للبيوت، وتعلمنا من الأفاضل فلسفة الثالوث، كالأب والابن والروح القدس، أو الباب والحجاب والذات الإلهية، وسمعنا آباءنا كثيراً وهم يصيحون في وجه أمهاتنا: الطلاق بالثلاث. وهلمّ جراً.

 

    يقول ميشيل فوكو، وهو من أروع "الأفراد النقديين" في القرن العشرين الذين قرأت لهم: "عندما أصبحت اللغة حقيقة تاريخية كثيفة وغنية، صارت ملتقى التقاليد وعادات الفكر الصامتة وروح الشعوب الغامضة؛ وكدَّست ذاكرة قدَريّة لا تعي حتى ذاتها كذاكرة. عندما يعبّر القوم عن أفكارهم بكلمات لا يسيطرون عليها، أو يقولبونها في صيغ كلامية تخفى عنهم  أبعادها التاريخية يظنون أن أقوالهم تطيعهم فيما هم الذين يخضعون لمقتضياتها".

 

    وأخيراً، وللأمانة العلمية، التي نعتبرها من شيم "الأفراد النقديين"، أشير إلى أن ما اقتبست من كلام ميشيل فوكو مذكور في الصفحة 248 من كتابه "الكلمات والأشياء" الصادر بطبعته الأولى من مركز الإنماء القومي ببيروت، وقد قام بترجمته المجموعة من المختصين








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما هي الأسباب التي تؤدي إلى الإصابة بالتوحد؟ • فرانس 24


.. مدير مكتب الجزيرة في غزة وائل الدحدوح: هناك تعمد باستهدافي و




.. الشرطة الفرنسية تدخل جامعة -سيانس بو- بباريس لفض اعتصام مؤيد


.. موت أسيرين فلسطينيين اثنين في سجون إسرائيل أحدهما طبيب بارز




.. رغم نفي إسرائيل.. خبير أسلحة يبت رأيه بنوع الذخيرة المستخدمة