الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قطار محمود درويش الساقط من الخريطة منذ ستين عاما

ثائر العذاري

2008 / 6 / 18
الادب والفن


نشر الشاعر محمود درويش مؤخرا قصيدته الأخيرة (على محطة قطار سقط عن الخريطة) لمناسبة مرور ستين عاما على اغتصاب فلسطين، ولأن هذه القصيدة – كما نرى- واحدة من القصائد المهمة التي تفصح عن خصوصية تجربة الشاعر، فقد وجدنا أن من المهم تأملها ودراسة خصائصها. (يمكن الاطلاع على القصيدة في الرابط http://www.alquds.com/node/26827).
من المعروف أن درويش ينتمي إلى المدرسة السيابية، وقد صرح هو بذلك في غير مناسبة، ولعل الطابع المميز لهذه المدرسة يتمثل بالعناية بتدفق الإيقاع الذي لا تنازل عنه، والاهتمام بالصور المجازية المركبة والمعقدة التي تمتد على مدى أسطر عدة وتتشابك فيما بينها لتصنع لحمة النص وسداه.
غير أن هذه القصيدة تتضمن تطويرا مهما للتجربة الإيقاعية يتجلى بذهاب الشاعر إلى جعلها جزءا أساسيا من بناء الدلالة الشعرية، لتخرج من كونها محض خلفية شعورية تسهم في بناء الجو النفسي للقصيدة إلى عنصر تركيبي يؤدي معاني ودلالات فوق تلك التي تؤديها المفردات
تتكون القصيدة من مائة وخمسة وأربعين سطرا حسب الشكل الطباعي الذي وضعه الشاعر، أما الدلالة الإجمالية الذي أرادت التعبير عنه فهو النكوص والإحباط، وهي تبدأ بالأسطر:

عُشْبّ ، هواء يابس ، شوك ، وصبار
على سلك الحديد. هناك شكل الشيء
في عبثية اللاشكل يمضغ ظًلَّهُ...
عدم هناك موثق.. ومطوَّقّ بنقيضه
ويمامتان تحلقان
على سقيفة غرفة مهجورة عند المحطةً
والمحطةُ مثل وشم ذاب في جسد المكان
هناك ايضا سروتان نحيلتان كإبرتين طويلتين
تطرّزان سحابة صفراء ليمونيّةً
..........................

إن أول ما يلفت الانتباه في هذه الأسطر ظاهرة التدوير، فلا سطر منها ينتهي بنهاية تفعيلة البحر العروضي تقريبا، إذ أن هناك دائما حرف أو حروف زائدة لا بد من وصلها بالسطر التالي ليستقيم الوزن، فالقصيدة من تفعيلة الكامل (متفاعلن)، ولكي تقرأ الأسطر قراءة عروضية سليمة يجب أن تكون هكذا:

عُشْبّ ، هواء يابس ، شوك ، وصبـ
بار على سلك الحديد. هناك شكـ
ل الشيء في عبثية اللاشكل يمضغ ظًلَّهُ...
عدم هناك موثق.. ومطوَّقّ بنقيضه
ويمامتان تحلقا
ن على سقيفة غرفة مهجورة عند المحط
طةً والمحطةُ مثل وشم ذاب في جسد المكا
ن هناك ايضا سروتان نحيلتان كإبرتين طويلتي
ن تطرّزان سحابة صفراء ليمونيّةً

إن الوقفات في نهايات الأسطر وقفات نحوية، لكنها لا تتساوق مع النهايات الفيزياوية للهيكل الوزني، وعلى القارئ أن ل يتوقف أبدا إذا أراد الإحساس بالإيقاع العروضي.
هذا التعارض بين السياق النحوي والهيكل العروضي يعبّر بقوة عن الدلالة العامة للقصيدة، فالجملة تصل نهايتها النحوية، غير أن الوزن يجبرها بقوته الإيقاعية على الاتصال بالجملة التالية وعدم التوقف، فهنا نظامان متعارضان، الأول اختياري وهو الشكل النحوي الذي يفترض أن يتمكن الشاعر من التحكم به وتطويعه كما يشاء، فيقف عندما يريد الوقوف ويصل عندما يريد الوصل، ونظام إجباري لا يتيح لذلك النظام الاختياري الفسحة المتوقعة من الحرية. هذا التعارض يشبه ويصور بالضبط الدلالة العامة للنص، الرغبة في التحرير وإرادة العودة خيارات مصيرية عند الفلسطيني، غير أن مجرى التاريخ وما يحفل به من أحداث منذ ستين عاما لا تجري بما تشتهي السفن نظام إجباري يحبط تلك الخيارات ولا يتيح لها فسحة لكي تتحقق. خيارات الفلسطيني المصيرية تقابل النحو. ومجرى التاريخ يقابل الشكل الوزني المفروض عليه.
أما الظاهرة الأخرى في بنية هذه القصيدة فهي إزدواجية الصوت، لا بمعنى تعدد الأصوات المعروف في النصوص المعاصرة، بل إن المتكلم هنا يتكلم بصوتين، فالنص يشبه إلى حد كبيرشخصا يتحدث في جمع من الناس، وفي الوقت ذاته يحدث نفسه لإيجاد تفسيرات أكثر عمقا من تلك التي يقولها علنا، فالهزيمة أكبر من كل الكلمات التي يمكن أن تقال وحتى من تلك التي لا يمكن أن تقال. في النص عبارات معترضة يضعها الشاعر بين قوسين، وهي يمكن أن تكون علامات إرشادية لفهم النص وتحديد منعطفاته الدلالية، غير أن تغير نغمتها وطبقتها ومزاجها يشير إلى أنها ليست جزءا أصيلا من السياق, إنها أشبه ما تكون بالتعليق أو حديث المرء مع نفسه:

وهناك سائحةّ تصوّر مشهدين:
الأوّلَ ، الشمسَ التي افترشتْ سرير البحرً
والثاني ، خُلوَّ المقعدً الخشبيًّ من كيس المسافرً
(يضجر الذهب السماويُّ المنافقُ من صلابتهً)
وقفتُ على المحطة.. لا لأنتظر القطارَ
ولا عواطفيَ الخبيئةَ في جماليات شيء ما بعيدْ ،

فالسطر بين القوسين جاء بلغة أكثر صرامة وأكثر يأسا من الأسطر المحيطة به.

ألا تزال بقيتي تكفي لينتصر الخياليُّ الخفيفُ
على فساد الواقعيًّ؟ ألا تزال غزالتي حُبلَى؟
(كبرنا. كم كبرنا ، والطريق الي السماء طويلةّ)
كان القطار يسير كالأفعى الوديعة من
بلاد الشام حتى مصر. كان صفيرُهُ
يخفي ثُغاءَ الماعزً المبحوحَ عن نهم الذئاب

وهنا يعبر السطر بين القوسين عن أن الموت صار أمنية بعيدة المنال، وهكذا كل العبارات بين الأقواس في القصيدة تأتي تعبيرا صادقا بلغة مرة عن الإحباط واليأس، ولأن الشاعر يريد إبراز أهمية هذه الأسطر بين الأقواس، فإنه يختتم القصيدة بواحد منها:

................يقول لي القضاة المنهكون
من الحقيقة: كل ما في الامر أن حوادث
الطرقات أمرّ شائع. سقط القطار عن
الخريطة واحترقتَ بجمرة الماضي. وهذا لم
يكن غزواً،
ولكني اقول: وكل ما في الأمر اني
لا اصدّق غير حدسي
(لم ازل حيا)

لا تدل العبارة (لم أزل حيا) على السعادة بالبقاء على قيد الحياة كما هو المفترض في مثلها، فالسياق يشير الى أن المتكلم هنا يقولها أسفا، فهو يتمنى الموت ولا يناله، ويمكننا أن نلاحظ كيف ربط الشاعر بين هذه الأسطر التي بين قوسين وبين الهيكل الوزني، فالعبارة (لم أزل حيا) لم تنته بنهاية التفعيلة لتصبح وقفة نهاية فيزياوية للقصيدة، إنها وقفة نحوية، لكن التفعيلة الأخيرة لما تزل ناقصة تبحث عن تتمتها، أو إن التدوير يريد الاستمرارالى ما لا نهاية:

ولكني اقول: وكل ما في الأمر اني
علن متفاعلن متفاعلن متفاعلن متـ
لا اصدّق غير حدسي
ـفاعلن متفاعلن متـ
(لم ازل حيا)
ـفاعلن متفا

وفي هذا تعبير واضح عن استمرار المأساة. لا يريد الهيكل الوزني التوقف، ولا يريد التاريخ أن يقف وقفة ينصف بها مظلمة الشاعر، ومظلمة الفلسطيني. أما النحو فقد انتهى إلى تعبير منفي عن الحياة ((لم) أزل حيا).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا


.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07




.. برنار بيفو أيقونة الأدب الفرنسي رحل تاركًا بصمة ثقافية في لب


.. فيلم سينمائي عن قصة القرصان الجزائري حمزة بن دلاج




.. هدف عالمي من رضا سليم وجمهور الأهلي لا يتوقف عن الغناء وصمت