الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأعمى

خالد جمعة
شاعر ـ كاتب للأطفال

(Khaled Juma)

2008 / 6 / 20
الادب والفن



المرأةُ تبدأُ في اقتفاء شريانٍ من ركبتي صاعدةً حتى ملتقى حاجبيَّ، تغرزُ شيئاً هناك يفقدني وعيي، أرتطمُ بتاريخٍ مشروخٍ قبلَ أن أسقط، أتحسّسُ الحلمَ، أشياءٌ كثيرةٌ تقفُ طابوراً غير منتظم، لا أتمكنُ من تعريفها، يسقطُ حجرٌ على مشطِ قدمي فأصحو، أبدأُ بما يسمونهُ الرؤية، يا إلهي، بعد كل هذا العمر عليَّ أن أبدأَ بالتعلُّمِ من جديد.
للأعمى لغةٌ خاصة، مفرداتٌ خاصة، ومفرداتٌ ملغاةٌ من لغة العميانِ لا يمكن أن تحضرَ بمجرّد حضور قدرة الإبصار لديهم، اللونُ مثلاً، الليلُ، النهارُ، الضوء، العتمة، وملايين الأشياء التي نحاول ـ نحنُ العميان ـ أن نحدد لها مفهوماً كي نستريحَ من عتمةِ الجهلِ البصريِّ الذي كنا نعيشه.
أول شيءٍ وقعَ بصري عليه بعد صحوي الفجائي كان سطحاً لامعاً لم أعرف كنهه، في داخله كان شخص يبحلقُ فيّ مثل مجنون، وبعد جهدٍ ووقتٍ طويل عرفتُ أن هذا هو المرآةْ وهو مفردُ مرايا، وللكلمةِ سحرها، كنتُ أتخيلُ المرآةَ نقطةً من سائلٍ على حجرْ، تفرغُ أحمالها من البشر على مهلٍ كعينٍ ثالثة، ولم يكن يعنيني الأمرُ كثيراً إن كان تفسيري صائباً أو خاطئاً، فنحنُ العميان لا نقفُ كثيراً عند هذه الأشياء.
المرارةُ، أن عليَّ أن أعيدَ صياغةَ حياتي من جديد، فالجميعُ كانوا يبادرونني بالتحيةِ حين أمرُّ على اعتبارِ أنني لا أراهم، لكنني الآن مطالبٌ بالمبادرة، وعليّ أن أستأذنَ قبل دخولي البيوت، وأشياء من هذا القبيل.
لم أعد أسبح في تلك العوالم اللانهائية، أصبحَ اليومُ مقسّماً برتابةٍ أشدّْ، كانت عوالمي مائيةً وحجريّةً بمجملها، جميلها وقبيحها من خلقي وحدي، كنتُ أخلقُ وأقتلُ كيفما وقتما أينما أشاء، ففي العمى تخلقُ عالمك، وفي الإبصار يجبركَ العالمُ على تحديد فكرتك عن الأشياء، كنتُ أتصور ما لا حصرَ له من احتمالاتِ الوجوه التي من ماءٍ حين يتحدث إليَّ أحد، والآنَ عليَّ الإلتزام بشكل واحدٍ لكلِّ وجه، عليَّ مشاهدة ما تبثه التلفزيونات من مجازر يومية، كنتُ اتخيل الموتَ والقتلَ والإنتحارَ والشنقَ والدهسَ والاغتيالَ والموتَ مرضاً كلها عبارة عن ماءٍ عكرٍ يسيلُ في ماءٍ صافٍ، الآنَ أصبح لكلّ موتٍ شكلاً عليّ تخزينه في هذه الذاكرةِ المرهقة.
الحياةُ أصبحت لا تطاقُ، أصبحتُ مثلَ مخزنٍ فتّشَتْهُ الشرطةُ بحثاً عن قصاصةِ ورق، كل شيءٍ تداخلَ ولم يعد شيء في مكانه، الأمكنةُ أساساً بالنسبةِ للأعمى وهم، وهي حقيقةٌ مصطنعةٌ لدى المبصرين، فالمكان يأخذ سمته حسب إحساس شاغله وليس العكس، وربما ينطبق هذا على الطبيعة كذلك، الأشياء تخلقُ وهمها الخاص بوجود نقيضها، ونؤمن بشيءٍ ثم لا نلبث أن نؤمن بنقيضه التام رغم خجلنا أحياناً من إعلان ذلك الإيمان على الملأ " الملأُ وهمٌ كذلك ".
فكرتُ كثيراً في اللجوءِ إلى وسيلةٍ أستعيدُ بها سلامي مع روحي ومع العالم كأن أفقأَ عينيَّ عائداً إلى العمى من جديد، لكن ذلك لم يكن ممكناً، إذ كيفَ سأمحو ما حُفرَ في ذاكرتي، فالزمن أحدث في الذاكرةِ مناطقَ لا تزولُ إلا حين نزولُ نحنُ، ومن يدري إذا ما كانت الذاكرة تزولُ بعد زوالنا.
المضحِكُ، هو لقائي مع أصدقائي القدامى، حين طلبوا مني تقريب الأشياء إلى عقولهم على اعتبارِ أنني أعمى سابق، لكن ما ظهر منهم أكّد لي أننا العميان ـ حين كنتُ واحداً منهم ـ لا نرى الخيالات ذاتها، ولا نتصورُ الأشياء بنفس الطريقة، بل أن كل واحدٍ يخلق عالمه كما تسعفه قريحته الفارغة من الألوان، لذا لم تعد لقاءاتي بهم تزيدُ عن احتساءِ الشايِ في مقهى صغير معظمُ روّادِهِ من هم على شاكلتهم الحالية وشاكلتي القديمة.
أحاولُ أن أفهمَ العالمَ من جديد، أن أتعرفَ على زوجتي وأولادي من جديد، وأتعرفَ على نفسي كذلك، كم هو صعبٌ أن تبدأَ حياتَكَ بعدَ أن تتخطى الأربعين، إن ذلك يشبهُ خسارتكَ لرأسِ مالٍ كبيرٍ دفعةً واحدة ومحاولة البدء من الصفر، لا، إنه لا يشبه ذلك، إنه لا يشبه شيئاً على الإطلاق.
كلُّ واحدٍ فينا أعمى بطريقته الخاصة، العمى ليس فيزيائياً دائماً، العمى حالة، وحالةٌ اختياريةٌ أحياناً، كي يفلت من يدخل الحالة من موقفٍ لا يحاسب عليه سوى المبصرين.
حالةُ العمى التي دخلتُ فيها بعد أن ارتدَّ إليَّ البصرُ أصبحت أكثر إيغالاً في التيه، هذه الحالة تلاحقني، فقد دخلتها مرغماً بعد أن أصبح الناسُ يلجأون إلى العميان الحقيقيين كي يقرأوا على قبورِ موتاهم أو في البيوت، الناسُ يعتقدون أن قدرةَ الأعمى على توصيل الكلامِ إلى اللهِ أعلى من قدرةِ المبصر، لذا فقد كسدت تجارتي، وضاع رأس مالي الذي كنتُ أعيشُ من ورائه، صحيحٌ أن ولديَّ يعملان ولا يدعاني أشعرُ بالحاجةِ إلى شيء، لكن شعوري حين كنتُ آكلُ من صوتي وأدعيتي مختلف كالفرق بين الأرضِ والسماء.
كنتُ محاصراً بسؤالٍ يطلُّ من عينيّْ زوجتي كلما نظرتُ إليهما، لماذا فتّحتَ؟ وأنا لا أجيدُ أيّ عملٍ كمبصر، لذا كان عليَّ أن أتعلم كيف أكون مبصراً، فإبصارُ المرءِ كما عماه، حالةٌ أيضاً، وأنا الوحيدُ ربما في هذا العالم الذي أعيشُ الحالتينِ ـ مرغماً ـ.
طول مدة عماي جعلَ جسدي وحركاتي يتخذان شكلاً معيناً أصبح من المستحيلِ تغييره، هذا الشكل يتعلقُ بتكوينِ عضلاتِ الجسمِ وعظامه ـ الوجه تحديداً ـ، باختصار أصبحتُ مبصراً في جسدٍ كلُّ إيحاءاته تدلُّ على شخصٍ أعمى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لأي عملاق يحلم عبدالله رويشد بالغناء ؟


.. بطريقة سينمائية.. 20 لصاً يقتحمون متجر مجوهرات وينهبونه في د




.. حبيها حتى لو كانت عدوتك .. أغلى نصيحة من الفنان محمود مرسى ل


.. جوائز -المصري اليوم- في دورتها الأولى.. جائزة أكمل قرطام لأف




.. بايدن طلب الغناء.. قادة مجموعة السبع يحتفلون بعيد ميلاد المس