الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرغبة في تخييل العالم .. قراءة في قارورة صمغ ل فاطمة ناعوت

محمد سمير عبد السلام

2008 / 6 / 23
الادب والفن


في ديوانها " قارورة صمغ " – الصادر عن دار ميريت بمصر 2008 – تعيد فاطمة ناعوت إنتاج دلالات الأنوثة ، في سياقات ثقافية ، و تخيلية ، و نصية عديدة ، تقوم أحيانا على الانحياز للنزوع الإبداعي في الطبيعة ، حيث يختلط الإحساس الفني بتجدد العناصر الكونية ، و يمنح الشاعرة رغبة في الخلود ، و الاتصال بقوة المبدأ الأنثوي في الأساطير و اللاوعي الجمعي ، و السخرية من المنطق الأحادي للموت ، و الحرب ، و الجنس ، و القضايا الكبرى . بينما تتجه بعض القصائد إلى محاولة بناء كينونة متمردة ، و في هذا السياق يستبدل الخيال ، و التأمل ، و السخرية السلطة الثقافية للأب ، ثم تذوب إشارات الأنوثة فيما وراء الهوية النسائية ؛ فتبحث الشاعرة عن لغة تتجاوز فكرة الحدود ، فتتحد بالأطياف ، و المجازات النصية دون أن تتخلى عن الصوت المؤنث في القصيدة .
إن ديوان " قارورة صمغ " يجسد اختلاط كتابة السيرة بالرغبة في تخييل العالم انطلاقا من مبدأ أنثوي قوي ، و ممتد بحيث نرى فيه الموت خلاصا ، و اللعب أصلا مضادا للمنطق الحتمي ، و آثار التهميش و الدم في التاريخ ؛ أما الجسد فيمثل استعادة متكررة للبهجة ، و الفرح بالتكوين ، أو النص ، أو الصورة الخالدة للأنثى في بزوغها الأول ؛ و لهذا نلاحظ احتفاء فاطمة ناعوت بالأطفال ، و الفنانين ، و الشخصيات الأدبية مثل فرجينيا وولف ، و صور الآلهة المؤنثة التي قد تجمع بشكل خفي بين عشتار ، و أفروديت ، و حتحور ، و كأنها تؤكد استمرارية الهامش و قدرته على تجاوز الموت ، أو الخطاب الكلي المعلن .
و من جهة أخرى يمثل الديوان مزيجا من المسارات المختلفة للفكر النسائي المعاصر ، الذي ترجع أصوله للستينيات ، و هو يشهد اليوم تحولا كبيرا ، و تأويلات عديدة ، و من أهمها ، ما رصدته الباحثة سارة جامبل في دراستها Post-Feminism أو ما بعد النسوية ، من اتجاه الكتابات النظرية الجديدة عند بروكس و غيرها ، نحو تجاوز الانفصال ، و التضاد بين الرجل ، و المرأة ، كما ترى أن الموجة النسائية الثالثة تجمع بين الالتزام بالكتابة الأنثوية ، و سيولة الهوية في الوقت نفسه ( راجع – سارة جامبل – النسوية و ما بعد النسوية – ترجمة أحمد الشامي – المجلس الأعلى للثقافة 2002 ص 86 و 90 ) .
إن فاطمة ناعوت تنتقل من تأكيد الهوية الأنثوية في أخيلة النقاء ، و البهجة ، و البياض خارج سلطة الأب ، إلى التحول باتجاه الطيف كدال إبداعي يتجاوز الأنوثة ، و لكنه يبدأ منها ليحقق حدس الخلود ، و الخصوبة المتكررة في سياق الفرح بالجسد الذي يعلو على الجسد المتعين ، و يخلط مادته بالالتباس الإبداعي الكامن في الطبيعة ، و الأسطورة معا .
في نص " هكذا " تتشكل الهوية من خلال صفاء الجدار المضاد للآخر ، هذا الجدار الذي يؤكد مبدأ آخرية الذكر ، و يتجاوزها من خلال الهامش الذي يحمل آثار الماضي ، و لكنه يسعى لاحتلال موقع الآخر ، من خلال نقاء مقابل يتمثل الهوية الأولى ؛ تقول :
" كلما ابتعدت عنك / ازددت بياضا " .
إن الآخر حاضر ، و لكن كنقطة في دائرة أنثوية مضادة للمركز ، و إن اتخذت قوته ، و شكله ، و تاريخه كبدايات لتشكيل عالمها المتجاوز للهامشية .
و في نص " طفلة " تبدو مقومات الكتابة النسائية في الإعلاء من اللعب ، و الأداء السردي ، و السخرية من القضايا الكبرى ، و تمثل الطفلة مبدأ الأنوثة المتخيل كطاقة خلاقة تنجذب الأرض حولها خارج تاريخ الحروب ، و الثورات ، و الصراعات ؛ تقول :
" حول كاحل ساقها / خيط / في نهايته كرة خضراء / هي تقفز إلى فوق / فتدور الأرض حول ساقها / تلعب هولاهوب بعدما سئمت من حكايا القرويين حول الثورة " .
هل هو الفرح الأول بوجود الجسد ؟ أم أنه انحياز الأرض نحو اللعب الإبداعي ، و تأملات الوعي ؟ . إن الشاعرة تعتقد في قوة الأنوثة ، و لو كانت أثرا أو طيفا ؛ فمن خلالها تتجدد الحياة ، و تتكرر من خلال التدمير ؛ يبدو هذا واضحا في نص " قرار " ، إذ تقول :
" في ميتتي القادمة / سأجعلهم يحرقون جسدي / و يستبقون أظافري " .
إن الأنوثة تستبق الموت في تكراره ، الذي يحاكي أحلام الخصوبة ، و التجدد ، و كأنها تسخر منه ، فالأثر هنا مادة إبداعية تقوم على التضاعف ، و الانتشار النصي ، و الطبيعي كلما جاء الموت ؛ فالأظافر تنتمي لقوة الأنثى الجمالية ، و أخيلتها المضادة للجسد المحدود في اتجاه التكرار و الاتساع للجسد نفسه حين يتحرر في سياق الكتابة .
للإبداع فضاء تخيلي يمثل قوة خفية ؛ هي قوة استعادة الوجود المناهضة للصراع في بعده الأحادي ، و لهذا تقوم الأماكن عند الشاعرة على بنية غير محددة يبدأ منها العالم ، في استعادة حضوره فيما وراء الواقع الشمولي . تقول في نص " مدينة " :
" سطحت أبنيتها المدافع / إلا كوخا / يحتل علامة + في كل عدسات التصويب / من يسكن الكوخ يا ناس ؟ / نحات فطري / و بعض طمي " .
إن تعاطف الوعي النسائي مع مادة الخلق ، يمنحها نزوعا نحو الديناميكية الأدائية للخيال ، الذي بدأ من المحو في اتجاه مضاد له ؛ فالفنان هنا هو الرجل الذي يسكن وعي المتكلمة ، و لا ينتمي للآخرية الأبوية ، و لهذا يندمج بالصوت المبدع ، و يحقق أخيلة الخصوبة في الوعي ، و اللاوعي .
الفنان كالطفل يمارس فعل الإنتاج خارج المسار الحتمي للعالم ، و لهذا يتحد بإمكانية اللعب في نص بعنوان " طفل " ، فالطفل يواجه الهدم الموجه للمكان بليونة المكان المماثلة لجسد الأنثى ، فيعلن الانحياز للتعددية ، و التجدد في مقابل العدم ، تقول :
" لا يعبأ بانهدام العالم / و لا يخاف الأضرحة / لا يرهب سقوط المآذن و الأبراج / في الليل يعيد رفعها بعيدان ثقاب و قطعة صلصال " .
الفضاء الفني هنا قوة إنتاجية في الطبيعة ، تتجاوز القوالب الصلبة التقليدية للموت ، و الحياة ، و الحرب معا . أما الطفل فهو الأداة المبدعة في وعي المتكلمة ، حين تلتحم ببنية لا يمكن اكتمالها أبدا ، هذه البنية هي المدينة الأخرى ، و الكتابة النسائية ، و الرجل الآخر .
و يبلغ الانحياز للهوية الجديدة ذروته في نص " حين أغدو إلهة " و فيه ترتبط الكتابة بالأسطورة ، و حلم الصفاء ، و العدالة ، و الالتباس الخيالي الداخلي ، و الاندماج بالمسار الآخر للرجل ، و غياب الحواجز الطبيعية ، و الكونية ، و الجسدية .
يبدأ هذا النص من نقطة بهيجة في الوعي ، تحاول هندسة العالم خارج المنطق الحتمي ، و كأنها تستعيد بطريقة سحرية صورة اليوتوبيا الأرضية القديمة انطلاقا من خصوصية التخيل ، و صيرورة الكتابة في المستقبل . تقول :
" سأنزع الكرة عن ثوبها / أنفض الخريطة / فتسقط مخطوطات التاريخ / و خطوط الطول و العرض و الحدود / .. أمر بريشتي على الوجوه المتعبة فيذوب البياض و السواد و الصفرة / تؤول جميعها إلى لون المشمش .. / أنتزع اللغات و اللهجات / و أصهر في بوتقتي معجما أبيض من غير سوء " .
إن ذوبان الحدود ، و الهويات هنا ينبع و ينتهي في دائرة نسائية تخيلية تستبدل الانفصال العبثي بين العناصر ، و اللغات ، و الأنا و الآخر ، و كأنها تكتب تاريخا مجازيا يقوم على المساواة ، و تأكيد الأنا في الوقت نقسه . هل هي التناقضات الأسطورية التي صاحبت صور الأم ؟ أم أنها طاقة الكتابة النصية المفجرة للتمرد كحدث أدبي ينتجه وعي المرأة ؟
أما نص " علامة مائية " فتنتقل فيه الشاعرة بين ثلاث مستويات مختلفة من الكتابة ، فتبدأ من الرغبة الدفينة في التحول المجازي ، ثم تعلن الثورة النسائية على المنطق ، ثم تصير بحد ذاتها علامة متخيلة لا يمكن ردها إلى السياق الثقافي للأب ، و لا السياق الجسدي المحدد للمرأة . يبدو حلم الذوبان في الماء استعادة للاتساع ، و التأمل ، و الالتباس الذي صاحب النماذج الأسطورية للأم ، و من خلاله يتحقق إغواء التحول كبديل مجازي للموت المهيمن على المشهد ؛ تقول :
" من الجميل أن تصبحي علامة مائية / على صفحة غيمة لا ترى الشمس / ثم تشاهدي العالم من بعيد / مثل فيلم سينمائي لا يعنيك / حين يقرعون الكؤوس أول حزيران / لا تحزني / .. و لا تنسي أن فرجينيا وولف كانت أكثر منك عذابا و أعمق موتا " .
المتكلمة تبحث عن أطياف المادة / الماء في سياق اللذة ، و اللعب المميز للكتابة التي تجمع بين الهوية ، و محاولة الاندماج بالآخر ، و من ثم فهي تصف انتحار فرجينيا بالعمق ، و كأنها انخرطت بالفعل في سياق تحول أسطوري يعلو على الموت .
ثم تصير العلامة المائية دالا للتمرد على ملامح الاستغلال الأبوي ، و كتابة لهوية بديلة ، تقول :
" أن تصبحي علامة مائية / فذاك يعني أن ضجيج العالم لن يفزعك / و لا الفواتير / و لا حتى الرجل الكاذب الذي أحببته / ستثأرين حين يغدو وحيدا " .
الكتابة المضادة هنا تصنع عالما لغويا يتميز بالخصوصية ، و الرحابة ؛ إذ تتخذ فيه الذات موقع المراقب المتعالي ، في سياق نسوي خلصته الكتابة للتو من التبعية الثقافية ، و الجسدية للأب .
ثم تتحرر المتكلمة أخيرا من ثقل الصوت المضاد للآخر ، و تتجاوز الهوية الجسدية في بعدها الأحادي ، و من ثم تنعتق الذات من دائرة الأنا ، و الآخر ، بكل ما فيها من دلالات اجتماعية ، و نفسية ، و تاريخية ، و نصية ؛ فيبدو الماء كعلامة للتحرر ، و الرغبة في اتصال مغاير ، تقول : " حين أغدو علامة مائية / سأفوت عليك يا حبيبي / عد البثور التي زرعتها أمي في جبهتي كي ينفر مني الرجال " .
إن التنوع في تناول المبدأ الأنثوي في هذه القصيدة يعكس ، ثراء الأفكار النسائية حين تمتزج بشاعرية النص ، و كذلك تصير كتابة هذا المبدأ تجريبية بدرجة كبيرة حين تلتحم بالبصمة الإبداعية الخفية في و عي الشاعرة ، و كذلك بخصوصية سيرتها الذاتية ، مما يدل على استمرار التغير في ملامح كتابة المرأة .
محمد سمير عبد السلام – مصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟