الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جورة حوا .. بين هاوية الواقع .. و انتصار الحِبر ..

نادين باخص

2008 / 6 / 25
الادب والفن


أمام احتفال اللّغة بالواقع ، و أمام فكرٍ نابضٍ بتفاصيل ما يجري ، لا يجد المرء فسحةً زمنيّة و لا حتّى مكانيّة ليتمالك نفسه و يلتقط أنفاسه .. هذا ما جعلني أشكّ بقدرتي على الإبحار في رواية ( جورة حوّا ) ، فتردّدت قبل أنْ أفعل ، خصوصاً و أنَّ النقد إنْ لم يقدّم فكرة طريفة ، ليس بالنقد الجذّاب ، و النقد إنْ لم يكن جذّاباً ، مصيره المنطقيّ الدخول في مأساة العنوسة ، إذْ ما من كائن يلزمه الاقتران بلون رمادي لا مستقبل له في التطوّر .

لن أقوم بتعديد شخصيات الرواية ، ثمّ أدرس كلّ واحدة منها دراسةً ميدانيّة ، بل سأقدّم قراءة شموليّة للرواية من خلال شخصياتها الرئيسة ، وفق ما عاشته تلك الشخصيات من ظروف معيّنة ، و ما خاضته لأحداث نسجتها الكاتبة ممّا توفّر لديها من دقيق الواقع ، مضيفة إليه خميرةَ خيالٍ مدهش .

بالرغم من أنّ الاعتراف ببطل وحيد للرواية بات مرفوضاً في عصر الأدب الحديث ، كون البطل الأعظم اليوم هو الواقع نفسه ، إلاّ أنّه لا يمكن الهرب من الاعتراف بأنّ ( مي ) هي بطلة الرواية ( ظاهريّاً ) ، مع الإشارة إلى أنّ البطل الإنساني فيها مفقود ، إنما هنالك محور عام حافظت الكاتبة عليه عبر شخصياتها الثلاث : ( مي ، كوثر ، ريمة ) ، ليصبحَ البطل عبر تلك الشخصيات المنتمية إلى مدينة ( حماه ) هو واقع تلك المدينة ، كما أرادت الكاتبة تصويره ، أو لنقل ، إنَّ البطل في رواية ( جورة حوّا ) ، هو ذلك الهمّ الكبير الذي تحمله الكاتبة في روحها .. ( همّ المدينة ) .. إنّه بطلٌ روحيّ بامتياز إنما نابضٌ بأجساد بشريّة ، و هذا ما يقابل بطولة الفقر في روايات دستيوفسكي .

و لما كانت سمة الحقيقة الأهمّ هي الصّفع ، فإنَّ مرورنا بشخصيّة مثل ( مي ) ، هو ما يشكّل لدينا صفعةً جميلة ، كونها تعبّر عن حقيقةٍ عميقة في روح الكاتبة و فكرها .. و من المعروف أنَّ الأثر السلبيّ للصفعة ليس هو السائد دائماً ، فكم من صفعاتٍ تسهم في إحداث أعجوبة تراجعنا عن شفير الهاوية ، مانعة كارثة اندحارنا ..
لقد نجحت موضوعيّة الكاتبة في رسم شخصيّة متمرّدة ، دون أنْ تنفّرَ القارئ من تمرّدها ذاك ..

فتمرّد ( مي ) على دينها _ مثلاً _ و مفرداته ، من حجاب ، و طقوس الحج ، ... ، لا يخدش القارئ المؤمن ، و لا يؤذي الشيخ المستنير ، هذا إنْ ملكا فكر الكاتبة و روحها ..

و المدهش في أسلوبها ، أنّها تطرح أفكار حسّاسة للغاية دون أنْ تخدش قارئها .. حتّى عندما صوَّرت روح (مي) الخائنة لزوجها ، و خيالها الذي يرسم كيف ستخونه ، لم تعطِ الفكرة بُعدها المقزّز عادةً ، و في الوقت نفسه ، لم تكن تحاول أنْ تبرّر لها خيانتها .. ربما السبب يعود إلى كمّ الواقعيّة في لغة الكاتبة ، تلك الواقعيّة الموضوعيّة التي راحت تحرّك الشخصيات ، بحيث توجّه صفعة للقارئ عند كلّ تثاؤب ، لا عند كلّ كلمة فقط ، و هذا ضروري للغاية في أيّ نصّ إبداعيّ ، فمَنْ قال إنَّ الأديب من حقّه كتابة ما يشاء ، فقط لأنّه يحقّ له ما يحقّ لغيره ؟ .. ثمّ مَنْ قال إنّ الأدب الواقعيّ هو الذي يُغرق مثلاً في تصوير الموت ، لدرجة أنّه يصل إلى التنكيل بالجثة ، أو هو الذي يُنعم في تفصيل الجنس ، لحدٍّ قد يصل معه القارئ إلى التقيؤ ؟

تمثّل كلّ من تلك الشخصيات ( حوّا ) التي كان من المحتمل سقوطها في الـ ( جورة ) لولا تطوّر شخصية كلّ منها .. فشخصيات ( منهل السراج ) الثلاث لا تتصف بالسكون و الثبات ، بل هي متطوّرة عبر صفحات الرواية.

( حوّا ) الأولى هي ( مي ) ، التي قضت أكثر من ثلاثين سنة من حياتها خارجة عن تقاليد عائلتها ، مختلفة عن بقية أخواتها ، إلاّ أنَّ اللحظة التي اضطرتها أنْ ترضخَ لما تفرضه تقاليد المجتمع ، جاءت بسبب فضيحة تعرّضَتْ لها ، فقط لأنّها _ هي الفنانة التشكيليّة _ استسلمت للحظة إبداع اجتاحتها فلم تقاومها ، بل ذهبت معها إلى حالة نشوة لم تفتح عينيها منها إلاّ أمام جَلْد الناس لها ، و وضع أصابع الاتهام في وجهها .. نعم لقد رضخت ( مي ) _ بسبب ما جرّته عليها لحظة جنونها الإبداعي تلك _ لقدرٍ موغل في الرماديّة ، على عكس الألوان التي أحبّتها دائماً .. إلاّ أنّ تطوّر شخصيّة ( مي ) من الألوان إلى الرمادي البحت ، لم يدعها تأخذ شكلاً تنتهي به الرواية ، بل عادت الألوان داخلها لتفاعلها الطبيعي ، لتمنح ( مي ) روحها المسلوبة من جديد ، و لتعود بها من الطريق الخاطئ الذي لم يكن سيوصلها إلاّ إلى الـ ( جورة ) .

و نأتي إلى (حوّا) الثانية : (كوثر)، لنتوقف عند اللطخة التي رافقت وهمها طويلاً ، لطخة سوداء كانت تداهم جبينها _ بمجرّد التقائها بالناس ، حتّى لو كانوا أطفال حيّها المنتشرين في أنحائه، يتراشقون الحجارة و التراب ، غير مكترثين بمرورها أصلاً _ و تتعدّاه لتغطي عينيها و وجهها بالكامل.. و الحقيقة أنّ لطخة (كوثر) السوداء ، تحتاج إلى دراسة نفردها لها ، لكنَّ المتّسع الورقيّ هنا ، يفرضُ علينا أنْ نتقيّد بسطور قليلة.

لم تكن اللطخة السوداء التي رافقت ( كوثر ) في أكثر من ثلاثة أرباع الرواية ، سوى تأثير دجل المعلمة في روحها التي أصيبَتْ بالهشاشة بدءاً من تعرّضها للتحرّش عندما كانت طفلة ، مروراً بفقدانها لوالدها و أخوتها في حادثة واحدة ، و وصولاً إلى منزل المعلمة و اجتماعاتها الدينيّة في ظاهرها ، الاستغلاليّة في حقيقتها .. حيث لم تكتفِ المعلمة بتسميم روح ( كوثر ) بالأفكار الخاطئة عن الدين و الدنيا ، بل راحت تستغل حاجتها و فقرها فتطلب إليها مساعدتها في شؤون منزليّة كثيرة مقابل منحها الآمال بتزويجها .. لكنَّ ( منهل السرّاج ) لم ترضَ أنْ تترك إحدى شخصياتها تُكمل في الطريق المنتهي بـ ( الجورة ) ، و إذا بها تُخرِجُ من أعماق ( كوثر ) تلك الفطرة المدهشة التي لابدّ و أنْ تخرج مهما حاول الإنسان دفنها : فطرة الحقيقة ..

غير أنَّ الكاتبة حافظت على الموضوعيّة نفسها في تفجير تلك الفطرة ، فلم تفجرها فجأة ، بل عملت منذ البداية على التمهيد و التلميح بأنّ ثمّة شيءٌ ما في روح (كوثر) لا بدّ و أنْ ينفجر .. و إذا بها تُجيد ترميمَ هشاشة تلك الروح التي تعرّضتْ للكثير من الضربات .

لقد اجترأت ( كوثر ) أخيراً على ترك منزل المعلمة ،ملتفتة لتعيشَ إلهها كما تمليه عليها فطرتها ، خالعة لطختها السوداء إلى الأبد .

أمّا ( حوّا ) الثالثة ، فهي ( ريمة ) ، و هي شخصية قد نلتقي بها يوميّاً .. فتاة من أصول فقيرة ، تزوجت من ثري أنساها فقرها ظاهرياً ، إلاّ أنَّ ردّات فعلها لا توحي بذلك ، فآلية التعويض نشطت في هذه الشخصية ، لدرجة أنَّ شغفها بالمظاهر أعماها ، و إذا بها أشبه بصندوق كرتونيّ كبير ، لكنه فارغ ..

و لأنَّ الكاتبة تتسم بنظرة إصلاحيّة ، تقدّم عبرها الحلول التي على كلّ أدب يريد أنْ يكون سامياً أنْ يقدّمها ، فقد تطوّرت شخصية ( ريمة ) في نهاية الرواية ، لتعودَ بها إلى الطريق السليم ..

و بانتهائنا من قراءة الرواية ، نتأكد من أنّه ليس المقصود بالعنوان : " جورة حوّا " اسم الحي الموجود في مدينة ( حماه ) ، فالكاتبة أذكى من أنْ تجعل من اسم الحي عنواناً بسيطاً ، دون أنْ تمنحه أبعاداً إضافيّة .. إنّها صاحبة رؤيا تتضح من خلال تتبّع شخصيات كلّ من ( مي ) ، و ( كوثر ) ، و( ريمة) ، فقد نجحت (منهل السرّاج) في إنقاذ شخصياتها الحوائيّة من جُوَر كانت احتمالاتها قائمة بقوة .. ( مي ) من جورة إنكارها لذاتها خوفاً من المجتمع ، و ( كوثر ) من جورة التطرّف الدينيّ الذي تساهم ظروف عدّة في خلقه ، منها المجتمع ، و أهمّها ظروف الإنسان نفسه ، و ( ريمة ) من جورة حبّ المظاهر الأعمى .

و قد كان العنوان " جورة حوّا " بمثابة حدث يجري _ على ما يبدو _ في واقع الكاتبة فعلاً ، لذا جعلت احتمال وقوعه قائماً على طول الرواية ، دون أنْ تسمح له بالوقوع في نهايتها ، بل أخذ في التبخّر على مرأى من عيني القارئ .. و هنا ، تكمن أمنية الكاتبة ، بالأحرى ، هنا يكمن همّها .

إنّ رواية ( جورة حوّا ) ، رواية تُخلَق في الوجه الواحد من أجل قراءتها ألف عين ، و يلهث الدارس في دراستها ، كونها تطرح مقولات هامّة ، ممّا يجعلها تُدرَس من ألف زاوية .. و قد اخترتُ أنْ أنثرَ دهشتي أمام هذه الرواية على طريقة الانطباعيّة التي أراها ألطف المناهج النقديّة ، ذلك أنّ المنهج الانطباعي ، يؤدِّبُ حبّاً ، و لا يجلد بغضاً .. ينساب بجاذبيّة ، ليجدَ سريعاً مَنْ يتوق للاقتران بألوانه الخاضعة لصيرورة أزليّة ..

و يبقى المتلقّي ، هو الحكم .

رواية ( جورة حوّا ) صادرة عن دار المدى ط1 2005 منهل السرّاج








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07


.. برنار بيفو أيقونة الأدب الفرنسي رحل تاركًا بصمة ثقافية في لب




.. فيلم سينمائي عن قصة القرصان الجزائري حمزة بن دلاج


.. هدف عالمي من رضا سليم وجمهور الأهلي لا يتوقف عن الغناء وصمت




.. اختيار الناقدة علا الشافعى فى عضوية اللجنة العليا لمهرجان ال