الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


Stike, Bossa Nova, strike!* (حكاية ألمانية)

ليندا حسين

2008 / 6 / 27
الادب والفن


بالكاد أتذكر العم هانو. فهو حين مات كنت ما أزال ولدا. طولي شبرين ونصف. لكن عن العم هانو يحكون دائما في أعياد الميلاد ومناسبات الدفن والزواج وقهوة الفصح. يبدو أن شيئا ما وقع على رأسه في الحرب، بالحرف: سقط شيء ما على خوذته وأفقده عقله. وعلى إثره لم يعد عليه البقاء في الجبهة، فانتقل في الأيام الأخيرة من الحرب إلى المقاومة الشعبية، وكان عليه تنظيم شارعنا مع فتى عمره ستة عشر عاما. ومن الحالة الميئوس منها لإمبراطورية الألف عام يمكن تصور أن أحدا مستهترا أعطى العم هانو بندقية، قتل بها بعد قليل كلبي رعي وعنزة وأطلق رصاصة على ساق مسؤول الحزب النازي، فذهب بعدها شاكيا وهو يعرج إلى الشرطة السرية، لكن قنبلة أمريكية سقطت في تلك الأثناء على رأس مسؤول الحزب الذي تبعثر فوق المنطقة كلها، لينجو بذلك العم هانو مرة ثانية.

رغم هذا وعلى سبيل الاحتياط فقد هرب العم هانو. لعدة أيام لم يسمع فيها أحد عنه شيئا. ثم قالوا أنه مسجون لدى الأمريكان، الأمر الذي يدعو للاستغراب، إذ كانت منطقة الرور تابعة لقوات الاحتلال البريطاني، ثم إن العم هانو كان بالكاد قد مشى متجها إلى كايزرسلاوترن أو هايدلبيرج حيث كان الأمريكان يجلسون، يستلقون، يقفون. لبضعة أسابيع احتفظوا به لديهم، ثم اتضح لهم أن لا خطر منه، فأحضروه إلى البيت. عند الأمريكان تعلم العم هانو هتافه الشخصي جدا، والذي ظل يرهب به العائلة حتى يوم مماته. فقد كان يصرخ مرات وبشكل مفاجئ تماما:
"Strike Possa Nova, strike!"

لم يعرف أحد ماذا تعني هذه العبارة بالضبط، إلا أنها كانت تسبب النرفزة للجميع. لكن العم هانو لم يكن ليهتم، إذ أنه كان قد أصبح أبله العائلة وكل شيء صار مسموحا له.

كذلك كان العم هانو يرسم لوحات مجنونة كان يتوجب على الأقارب أن يشاهدوها. في الحقيقة كانت تبدو تلك اللوحات أقرب إلى ضفدع مدعوس حتى الموت على ورقة بيضاء. لكن ولأن العم لم يكن لديه شيء آخر يفرح به، كان الجميع يقولون له إن اللوحات تبدو حلوة جدا. العم هانو كان يصمم بنفسه إطارات بسيطة من خشب ومن صفيحة زجاج يؤطر بها لوحاته كما لو كانت أعمالا فنية لعبقري حقيقي، لكنه للأسف أبله. كان يصر دائما على تعليق أعماله الإبداعية في بيوت كل الأقارب والمعارف المخلصين ـ الذين لم يظهروا مقاومة كافية ـ وكان يقوم بذلك بنفسه. لهذا الغرض كان قد استجدى من أخ له مثقبا مميزا جدا، وهكذا كان العم هانو يتنقل من بيت إلى بيت، يحفر ثقوبا ويعلق أعماله الفنية محاطة بإطاراتها في بيوتهم جميعا. لم تكن الثقوب تعجب الناس لكنهم كانوا يتركون العم هانو يقوم بحفرها، فهو يبقى هانو فقير العقل.

هناك حكايات كثيرة عن العم هانو، تتبع جميعا لأساطير العائلة. لكن المعاصرين له يحبون بشكل خاص ترديد حكاية عام 1954. كانت الضاحية كلها مبتهجة، فاللاعب فريتز وأوتمار الزعيم و توني الرئيس وكل أعضاء فريق كرة القدم الآخرين كانوا قد وصلوا لنهائيات كأس العالم دون أن يعرفوا أنفسهم كيف تمكنوا من هذا. والآن يقفون مرة أخرى في مواجهة هنغاريا، التي كانت قد قضت علينا في دور التصفية بثمانية أهداف مقابل ثلاثة. لكن اليوم نهائي المنافسة وأوراق اللعب ستخلط من جديد، قال الجميع.

حين أطلقت صفارة البدء في بيرن كانت كل العائلة حتى النساء وبعض الجيران أمام راديو والديّ جدي، ذلك الراديو الذي ظل "جوبلز" **يزعق خلاله داعيا لحرب شاملة، الحرب التي بالرغم منها استطاع الراديو أن يبقى على قيد الحياة.

كانت تمطر في بيرن.
"هذا الطقس طقس فريتز" قال الجد مرددا كلام مدرب الفريق. إذ أن المطر الناعم هو طقس فريتز فالتر، الذي يلائمه. وبهذا وحده نكون قد قطعنا نصف الطريق. ثم إن الهنغاريين بالتأكيد معتادون على طقس مختلف تماما. كيف هو هذا الطقس لم يكن واضحا، لكنه بالتأكيد طقس مختلف تماما.
ظهر العم هانو وتحت ذراعه صورة رسمها بنفسه للمنتخب الوطني الألماني بجميع لاعبيه جنبا إلى جنب مع فريق الاحتياط والمدرب وأيضا نافخ الكرة. تحت الذراع الثانية كان المثقب.

"نااه هانو" قالت جدة والدي، "اليوم سنضع المثقب على جنب.. صح!"
"Strike, Boss Nova, strike"
هتف العم عارضا لوحته الجديدة لهم.
"ماهذا؟" سألته الجدة.. "إنه يبدو كالبراز" قالت له.
شربوا البيرة رغم أن الوقت مايزال ظهرا، وأيضا حصل العم هانو على زجاجة على الرغم أنه لا يتحمل الكحول، لكن اليوم نهائي كأس العالم ومن المسموح أن تحدث استثناءات.

السيد شتانكوفسكي العجوز جاء متأخرا بضعة دقائق وبقي واقفا بالباب. قال إنه يجب عليه أن يبحث عن أسنانه. لسوء الحظ لم يعثر عليها. ولهذا فعندما كان يقول كلمات بحرف "س" كان يتطاير منه رذاذ ويحط على شعر العمة هيلده.

المعنويات التي كانت في البداية عالية ومنشرحة اختفت حين تقدمت هنغاريا بعد ثماني دقائق فقط بهدفين مقابل لا شيء. العم هانو كان قد تحمس بعد هذين الهدفين فنسي هتافه الخاص وبدلا منه أخذ يصفق بيديه. "سد فمك أيها الغبي، وإلا رميت آخر ما تبقى من خلايا دماغك في المقلاة" قالت الجدة. نبرة عائلتنا كانت هكذا عالية دائما.
"اهمم" علق الجد على النتيجة الأولية. "ليس لديهم الآن شيء ليفعلوه. هم كانوا يريدون أن يتبرزوا على قبعة الباستر، لكنه نزعها عليهم بقلعه القبعة" لم يعرف أحد ماذا يعني هذا بالضبط. لأن الباستر لو نزع قبعته هكذا يمكن التبرز مباشرة على رأسه. وهذا كان أفضل بكثير منه فقط على القبعة. "ألم أقل لكم" قال الجد منهيا كل نقاش.
"لا تتعجل!" حذر السيد شتانكوفسكي مبللا مؤخرة رأس العمة هيلده من جديد، رغم أنه لم يكن في جملته حرف "س".

بعد دقيقتين أحرز ماكس مورلوك الكبير الهدف الأول، وبينما كادت أرواح الجميع تطير من فرط السعادة، صرخ الجد: "الآن صار عندهم أمل!"
ثمانية دقائق فيما بعد جاء دور الزعيم: هيلموت ران فعلها، وأعاد فتح جميع الاحتمالات من جديد بهدف التعادل. "لقد قلت لكم" قال الجد. "لا ترموا سمك الرنج بهذه السرعة في الماء!" ووافقه الجميع رأيه. ثم سبع وعشرون دقيقة مرهقة للأعصاب جاءت بعدها الاستراحة.

في الشوط الثاني حدث صخب، كما يتوقع المرء وكما روي دائما. المجر بقيادة السيد فيرينك بوسكاس الطويل حرثوا أرض الألمان حرثا لدرجة أنه كان بالإمكان رؤية اللفت حتما لو كانت الأرض مزروعة به. أعضاء الفريق الألماني كانوا يقفون لهم بصلابة مثل الألف وحين لا يكونون يكون الحارس توني توريك إله الكرة مازال هناك. حدث هرج ومرج في غرفة معيشة جدي، ثم سكر الجميع لكن ليس من البيرة وحدها. كان العم هانو يميل فوق كرسيه هنا وهناك وقد بدأ يستوعب ببطء خطورة الموقف. كان الانفعال قد بلغ مبلغا. والنهاية باتت وشيكة.

وفجأة لم يعد له وجود. وقف هانو وأخذ يسرح في البيت دون أن ينتبه إليه أحد، فمصير ألمانيا كان يتقرر عبر الأثير. من غرفة المعيشة كانت ما تزال تصله صيحات عالية وتأوهات، كان يمكن أن تسبب الجزع لشخص لم تصب رأسه في الحرب.

وهكذا أمسك العم هانو صورة الأبطال الألمان وكذلك المثقب الذي ناله كهدية من أخيه، وأخذ يبحث في المدخل عن مكان مناسب ليعلق عليه لوحته.
كان قد بقي ست أو سبع دقائق على انتهاء المباراة. كل رمية كان لها أن تكون النهاية. كان المعلق تسيمرمان في الراديو يستمر بالكلام بصعوبة. "بوسكاس يمسك بالكرة، يقف على خط المرمى، توني، توني أنت أغلى من الذهب. اعتبروني مختلا!"

في هذه الأثناء كان العم هانو قد وجد مكانا جميلا للوحته. يجب أن يكون مقابل باب البيت، حتى يتمكن المرء من رؤيتها فور دخوله، تماما قرب علبة قاطع الكهرباء.
بالكاد سمع أحد هدير المثقب، رغم أن الجميع كان صامتا، فقد حبسوا أنفاسهم حين صرخ المعلق: "ومن الخلف سيرمي ران الكرة، ران يرمي الكرة و ..." وصمت المعلق. وانطفأ الضوء، وهدير المثقب كان يخفت شيئا فشيئا. وكما لو أن الجميع قد تلقوا ضربة على الرأس، ثبتوا أنظارهم على كومة الخشب الخرساء. لم يأت أحد بأية حركة. ثم سمعت من الخارج صرخة رعب: "ما الذي يجري؟! من الخنزير الذي فعلها؟ هل يقف الروس أمام الباب؟" قفز الجد باتجاه النافذة وفتحها ثم تورط بنقاش ثقيل مع الجيران جميعهم تقريبا: في الشارع كله، في الحي بأكمله كانت الكهرباء مقطوعة. وبالتأكيد كان الجميع قد سمعوا في نفس اللحظة: "ومن الخلف سيرمي ران الكرة، ران يرمي الكرة و ..." وبعدها بقليل كانت اللعبة قد انتهت انتهت انتهت. هكذا حدث كل واحد نفسه. والكل سأل نفسه: "هل استعدنا مجددا أمجادنا أم لا؟" ثم تكشف عندها فقط للجد، من من الممكن أن يكون المسؤول عن هذا كله. فجرى إلى الممشى حيث رأى العم هانو مكسور الخاطر تماما وهو يقبض على المثقب الذي ما زال معلقا في الجدار. بعينين فتحهما الرعب واسعا صرخ هانو:
"Strike, Boss Nova, strike"
وهنا قال الجد: "هانو، أنت بالفعل مختل" والعم هانو ضحك بسعادة، فهذا الاستنتاج لا يمكن إنكاره.
ثم جاء السيد شتانكوفسكي بوجه محمر خال من الأسنان، وصرخ: "هل مرغنا أنف مفترسي الجُلاش بالوحل أم لا؟"
رد جدي زاعقا: "شتانكوفسكي لا تنفّ علي مرة ثانية أبدا!"

بعدها بقليل جلس الجميع في غرفة المعيشة شاعرين بالذنب. وفي هذه الأثناء خطر لأحد الجيران أن يستخدم الهاتف، وعلموا جميعا بعدها: لقد استعدنا أمجادنا.
سنوات بعد تلك الحادثة، كان الجميع متفقين أنه لولا العم هانو والمثقب وانقطاع الكهرباء لما كان ذلك اليوم بهذا الجمال. ولما تحمس واحد من العائلة للنقل المباشر وللإعادة البطيئة سبع عشرة مرة للهدف.

وعام 1974 عندما توفي العم هانو نتيجة لاختلاطات متأخرة لإصابته في الحرب، لم يرض جدي إلا بأن يكتب بنفسه على حجر القبر. وهذا لم يجدوه على أي حجر في العالم. "Strike, Bossa Nova" مكتوب هناك "Strike!" وتحتها: "كان أبلها. لكننا قضينا معه أوقاتا سعيدة"
....................................................................................................................................

*قبل أن يضمّن المؤلف فرانك جوزن (مواليد 1966) هذه الحكاية في مجموعته القصصية (أناي وحياتها 2005) كان قد قدمها على المسرح في برنامج قراءات لنصوص ساخرة يواظب جوزن على تقديمها، ويصدرها في ألبومات تحقق مبيعات عالية في ألمانيا وإقبالا شعبيا.
** جوز يف جوبلز كان مسؤول البروباغندا في عهد هتلر، وواحدا من أكثر المؤثرين في السياسة النازية آنذاك.

الترجمة عن الألمانية: ليندا حسين








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء


.. بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء خاص مع الفنان




.. كلمة أخيرة - فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمي


.. كلمة أخيرة - بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء




.. كلمة أخيرة - ياسمين علي بتغني من سن 8 سنين.. وباباها كان بيس