الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة

علي غشام

2008 / 6 / 27
الادب والفن


أرث الجلاد

لم يستول عليه كالذي لفه ايام العجاف تلك ، بات لا يفقه من حديث جليسه شيء ، غير همهمات واستفسارات بلهاء يعبر عنها بحركات غير إرادية توحي بالرضا والانتباه لحديثه، فرأسة متخم باستنتاجات وخوف ورعب.
أي موج قذف به على هذه الشواطىء الموبوءة غاصت في الرمل خطواته البطيئة، وجفت ملوحة الايام تلك من شدة حرارة الصبر الموشى بمرارة السنين حاملا معه أوجاعه بعيدا في صحراء القلب المتشقق تشقق الطين اليابس ، لم تسعفه كل كلمات التأسي ، العزاء الوحيد له من هذيانه المزمن هو اجترار الذكريات ومساحة الوطن الممتد من سومر حتى أولاد النار ، والبراكين المنذرة بانفجارها ، تردد الموج لوهلة في الاستحواذ على حبات الرمل التي تحاول الهروب الى مسافات الشاطىء خوفا من انجرارها الى أعماق البحر السحيقة !!
ثمة طائر هناك كان يرفرف بقلق مفرط.. لابد شيء ما اجفله حدّ الموت .!
- ألا تسمع ما أقول ؟ باغته جليسة مذكراً إياه بحديثة الذي لم ينتهي بعد،
كان لا وعيه نشطاً جدا .. نوارس سوداء متخمة داست بأحجامها المثقلة بولائم المدينة المنهوبة على حبات الرمل فغاصت الأخيرة في أعماق الشاطيء الذي تحول الى هاوية بالغة الاعماق.. بدا وكأنة بلا حدود ..هناك تنفجر غرائز الارض المكبوتة جميعها دفعة واحدة و تتشضى أجساد عرائس البحر في تلك المسافات النائية الملتهبة متحولة الى كومة من الفحم الحجري ، وسائل سريع الاشتعال ، بدرجة غليان آلاف الدرجات المئوية وبضغط جنوني يوازي ضغط أعمق نقطة في بحار الله الواسعة حيث لا نهاية لظلا ابدي .!
- كأنك لست من هذه المدينة ؟ سأله احد حيتان الارض السوداء الهشة هشاشة الهُلام ، أنت نكرة ، أنت لا شيء ، لم تعرف بعد معنى عذاب جهنم ولا طعم الجنة ؟!!
وراء ظلمة تلك الساعات من أول الليل اللزجة والصاخبة بزعق حناجرهم الواسعة والمصممة لاستيعاب اكبر أحجام السرقات الوطنية ..!!
اختفت كل قراءاته عن محاكم التفتيش والمغول والتتار وراء ذلك القناع الأسود المتحفز للتدمير،!
أي عطش هذا الذي أصابه، أحس بثقل يديه وجفاف في فمه ، لم يرَ سوى أقنعة وعصي تقبل جسده المتعب ، تهوي بها ايادٍ خشنة كالتي يراها في كوابيسه التي أدمنت على الدخول باللاشعور بين حينٍ وآخر
- انت لا تفقه شيء أبدا ، حياتك وحياة أصحابك ليستا ذوات قيمة او اعتبار .!
التقطت أذنه هذه البديهيات لدى احدهم مصحوبة بطقم شتائم مركز وساخن ، ونقاش على حمأته بين جسده واحد العصي المنفلتة من عقالها .!
- انتم علة هذه الفوضى والانتكاسات والمصائب التي حلت بنا !!
انبثقت من بين استقراءات عقله صورة جثته وهي ملقاة على طريق عامة ، ولم يكلفوا أنفسهم حتى عناء إخفائها ، ولم يعره المارون أي اهتمام ، فروتين القتل مألوف هذه الايام .!
تذكر كابوسه الأزلي الذي أقام في اللاشعور طيلة الثلاث عشر من السنين الرمادية ، لكنه أصبح أكثر رعبا من قبل، فهذه المرة أحس به يقطع أوصاله قطعا وأجزاء كربلائية متناهية في الصغر!
لم تلد هذه التراجيديا كل مواليدها المشوهة بعد ، ولم يتوقفوا عن صناعة المسوخ ، أو استيرادها لأنهم لم يقتنعوا بأدائها !!
- لم كل هذا الاهتمام بالعقل برأيك ؟ سأله احد المدمنين على الدم البشري والمصابين بـ( السيدا السياسية) مرفقا سؤاله بخبث طاغٍ !
- من الصعب ان أجيبك فجسدي مشغول بالرد على أسئلة احد العصيّ النهمة .!
قال الرب ((اقبل وأدبر ففعل بكل إذلال .. فأكد له الرب بأغلظ الأيمان بك الثواب وبك العقاب ))
- من أين لك هذا التفقه يا ابن ...................!!
- هذا ما وصل ألي من سواد أوراق الأولين .
- عقولكم مشوشة وملوثة بالإلحاد وتحتاج الى تطهير ..! انتم تستطيعون غواية عقول الناس بكل بساطه ، أفكاركم هدامة للدين والأمة ..!! وأيامكم فاسدة ومليئة بالمعاصي ولكم القدرة على إثارة غضب الإله ، فيا ويلكم من العذاب القادم !!
- أتعجب من قولك هذا .! أمن المعقول ان هذا الرب الرحيم يثأر من مخلوق بسيط مثلي ، وأتسبب بهياج ربٌ مثله ؟؟ !
- لا تسخر مني يا ابن الـ..........................!!
- ((ان الله لا يحب الجهر بالسوء من القول))
- لا تتفقه عليّ ، انتم شرار أهل الارض .!
امتد به الزمن بومضة توقف عندها حوار العصيّ مع جسده المنهك ، اعترضت مجرى ذاكرته النشطة وكأنها كرة بيضاء لم تتحدب بشكل هندسي مئة بالمئة ، هناك أعين واسعة وقلقة ترقبها بشغف ما لبثت ان تتحول الى أيدٍ كبيرة وخشنة تحاول الإمساك بها ، في حين تتزاحم على مقربة منه أقدام وأنصاف أقدام موحلة تصّدر أصوات مبهمة ، فيما تصاعد هناك دخان أبيض كثيف كالذي ينبعث من سيجارة حارسٍ ليلي ، وهناك مئذنة تتطاول صعودا في السماء ثم تنكسر الى نصفين غير متساويين كالسبابة والإبهام من كف اليد ، وسرعان ما تختفي في ماء ضحل يعلوه ضباب .

- أحكمت القيد ، أرخيه قليلا ، إذ لم أعد أشعر بأصابعي.
- أسكت يا ابن الـ.. مثلك يجب ان يموت.! صوفيتك وأنت مراهق شفعت لك لدينا ، وإلا قتلناك..!
- تمتم في نفسه .. أضنك حينها كنت في حزب الجلاد ومن سيافيه ..ها..ها..ها.
- أضنك تعرفني..؟
- ليس بالضروري أعرفك شخصيا ..
استبان في وسط الظلام الكثيف وجه سيد لصوص الوطن ، وتلك التقاسيم الحادة لتربيعة ذلك الوجه البدوي الجلف بشاربه الكثيف ولحيته المدببة وابتسامته (القِردّية) الباهتة ، عندها أحاطت به كل كوابيس اليقظة من ذلك التاريخ الزاخر بأدوات الإبادة الجماعية والشلل الفكري ، وصحراء الدم المتخثر على مساحات الوطن ، صابغة ماء الاهوار بلون الموت الأزلي والمعلب بغرف الاسمنت الضيقة ، وكلاليبها ، وحبالها وعصيها ومساميرها ، وسكاكينها وألواح توابيتها المتحجرة .. حينها تراءت له مركبات محملة بجنود الشطرنج الملكي مرتدية أزياء الهلاك ، والتقطت حاسة شمه تلك الرائحة الأبدية للشر النافر كبركان لم يفتر عن انفجارياته المروعة ، والمكبوتة ، مغتصبة أبجدية الفرح الإنساني تاركةً إياه جثة متخمة بالاضطهاد ، ما تلبث ان تتحول الى رماد يذرى مع رياح القومية والقبلية ، وتلك الدمى المقدسة والتي انفلتت خيوطها من بين كفي الرب فخرجت عن سيطرته فاستوطنت كرسيه المحمول على رؤوس عباده الضعفاء ، فنابوا عنه تجويعا وتشريدا واغتصاباً بجدارة منقطعة النضير، فكان العبد سيء الصيت الذي تولى حكم الرعية ، بعد انتهائه من النضوج في مدارس ((القومجية)) وشوارع القاهرة ، بين عواهرها مستكملا دورة حياته الطفيلية بين فتوات بغداد وأزقة الكفاح والفضل..!
- لكن انتظر سأخبرك هذه المرّة عن الذ1ي عقر ناقة صالح ، وأعرفك بأسماء أخوة يوسف قبل ان يلقوه في غيابة الجب ، ونوع خشب صليب المسيح ، ولون بشرة هابيل قبل ان يذهب ضحية أخيه غدرا .. لكن دون غراب هذه المرة فقد استغنوا عن القبور...!!
شتاء
2007








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب