الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سخرية القصاب

سعدون محسن ضمد

2008 / 6 / 28
سيرة ذاتية


يقع على طريقي اليومي محل شعبي لبيع اللحوم حيث يديره قصّاب يتمنطق بحزام مليء بالسكاكين الحادَّة. كثيراً ما تدعوني علاقة القصّاب بمجموعة النعاج للتأمل الحزين. فحيث ينهمك هو بذبح وسلخ جلد أحد حيواناته تكون بقيتها منهمكة بالتهام الحشيش والتقاتل عليه، وكأنها لا ترى أو تسمع المنظر الذي يقع بمحاذاتها ويسرد عليها تفاصيل مصيرها الحتمي والقريب. فسرعان ما سيأتي زبون في طريقه لإعداد وليمة كبيرة، وعندها تبدأ عملية اختيار احد المتصارعين على الحشيش والسير به تجاه قَدَر السلخ.
هذا المصير يتكرر باستمرار ومع ذلك لا النعاج تبالي ولا القصّاب يمل. غالباً ما يأخذني مثل هذا التأمل للسخرية من مصير الإنسان، يخيل إلي دائماً بأننا في نهاية المطاف مجموعة هائلة من النعاج. مجموعة كبيرة جداً تحملها كرة هائلة وتدور بها داخل مدار مخيف، عندما تحضر بوعيي هذه الصورة أكاد أقطع بأن الأرض أشبه شيء بالمزرعة التي تربى فيها حيوانات الحقل التي ينتظر كل منها دوره في حفلة حز الرقاب.
كلنا نعلم بمصير الموت، في كل يوم هناك قصّاب ومجموعة سكاكين ودماء من جهة، ومن جهة أخرى حفنة دسمة من الحشائش التي نتقاتل عليها فيما بيننا. والسؤال الذي أواجه به نفسي باستمرار هو: ما الذي يجعلني أشعر بجدوى أكل الحشيش وأنسى أهمية أن أكف عن لعب هذا الدور الممل.. لماذا انتظر القصّاب؟
يوم أمس سمعت من أحد إصدقائي جملة تختصر لعبة الحياة، فقد قال ـ وكنَّا نتحدث عن لا جدوى الكتابة ـ بأن على الإنسان الذي يمتلك وعياً مغايراً قد يقوده لأسئلة الجدوى المخيفة أن يشغل نفسه بأي شيء. أي شيء، أي وهم يجعله ينسى هذا المصير القذر. حسناً إذن، فهل يمكن أن تكون النعاج التي أمر عليها يومياً حكيمة لدرجة أنها امتلكت سر الحياة. أيعقل أنها تلهي نفسها عن التفكير بمصير لا سبيل للخلاص منه عن طريق الانهماك بأوهام العلف.
بالنسبة لي أُدْخِل نفسي دائماً بدوامة مشاغل لا تنتهي، بل لا تخف وتيرة تصاعدها. والويل لي لو حُوصرت بلحظة كساد وعطل. الويل لي لو وجدت نفسي خالياً وحدي داخل غرفة من أربعة جدران، عند ذلك لا أخاف فقط من شلال الأسئلة الذي يحيط بي كما الوحوش الكاسرة. بل أخاف أيضاً مما سيكون عليه حالي بعد أن أقع فريسة تأملاتي الحزينة والمتشائمة، خاصَّة إذا تذكرت الأشياء الحزينة في حياتي. أمي مثلاً والنتائج التي أوصلها إليها حُفلُ سلخها، فقلبها عاجز وضغطها مرتفع ودفتر أمراضها المزمنة مليء بالوعود الكاذبة. أبي هو الآخر شيء محزن، فقد كبر لدرجة جعلته يراقب الوجود من حوله بعيني حكيم مغادر. يشعر دائما بنبض الموت، ويحسب باستمرار لحظات اقترابه، يتكلم عنه بمزيج من الاستسلام والحنق والاستهزاء. أتذكر أيضاً نفسي وأنا أحيطها بمجموعة تافهة من الكتب ومجموعة أخرى من الارتباطات والمشاغل ووظيفة أطل من خلالها بعض الأحيان على الناس لأمثل لهم دوراً ألهيهم به عن حفلة حز الرقاب التي تجري بالقرب من بيوتهم كل يوم.
اقتربت الساعة الآن من التاسعة والنصف صباحاً، وبعد أن افرغت شحنتي العاطفية وبكيت قليلاً من مصير النعجة الذي أذهب باتجاهه، شعرت بالجوع، وفكرت أثناء إنهائي لكتابة هذه الكلمات وبدون أن أشعر بأن اتناول الإفطار، عند ذلك فقط شعرت بأن قصّابي يسخر مني، وأنه يقف هناك في مكان ما وزمان مختلف ويضحك وهو يحدُّ سكاكينه. يضحك من نعجة تافهة لدرجة أنها تراقب بحذر مجموعة سكاكينه لكنها مع ذلك لا تستطيع أن تشيح بعينها بعيداً جداً عن كومة العلف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو يتسبب بإقالة سفير بريطانيا لدى #المكسيك #سوشال_سكاي


.. فيديو متداول لطرد السفير الإسرائيلي من قبل الطلاب في جامعة #




.. نشرة إيجاز - مقترح إسرائيلي أعلنه بايدن لوقف الحرب في غزة


.. سلاح -إنفيديا- للسيطرة على سوق الذكاء الاصطناعي




.. -العربية- توثق استخدام منزل بـ-أم درمان- لتنفيذ إعدامات خلال