الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل هو محتوم أن ينجح النموذج الأيرلندي ويخفق لبنان العربي؟

مهدى بندق

2008 / 6 / 29
الارهاب, الحرب والسلام


مرة أخرى ، وخلال الأسبوع الماضي حملت الميديا إلينا أنباء كارثة لبنانية جديدة ، إذ اشتعل القتال مجددا ً في الجبل وطرابلس ، هذه المرة بين السنة والشيعة ! عشرات القتلى والجرحى من كلا الطرفين ، حيث بات المرء لا يدري من يعزي ؟ وفي من ؟! في المقتولين أم في القتلة وهم جميعاً أخوة يتبادلون الأدوار, راسخين علي مذهبين متنافرين: سنة وشيعة في قلب الإسلام دين التوحيد!
بندقية المقاومة تشعل فتنة مذهبية لا تخدم غير العدو الإسرائيلي , كان هذا هو تعليق
الشيخ صبحي الطفيلي الأمين العام الأسبق لحزب الله ، محذرا ً من نشوب حرب أهلية جديدة نهايتها إما تسليم لبنان للإمبراطورية الفارسية – والكلام مازال للشيخ الشيعي - وإما تقسيم لبنان ! .
في هذا السياق قد يبدو مفيدا ً استدعاء نموذج شبيه ، تدارسا ً للكيفية التي بها استطاع تجاوز هذه المحنة, ذلك هو النموذج الأيرلندي الذي عاش عقودا ً مأساة القتل المتبادل بين أبنائه المسيحيين, المنقسمين الى كاثوليك وبروتستانت .
ربما يقول قائل إن الدين – أي دين – برئ من الدعوة الى القتل, وإنما السياسة المتقنعة بقناع الدين هي الداعية. وهو قول صحيح ، بيد أنه يدعونا أن نسأل فما هي تلك السياسة ؟ ذلك هو السؤال المحوري في حياتنا نحن البشرية, فعلى خلفيته تتبدل مواقع الأفراد والشعوب, وتتحدد مصائر الدول والمجتمعات.لكن دعنا نؤجل محاولتنا للإجابة عن هذا السؤال المفرق بين البشر, ريثما نكتشف أولاً أوجه التشابه الحضاري بين النموذجين : الذي نجح ، والذي يوشك أن يخفق ، أو يوشك أن ينجح !
شبيهان ولكن
بلد صغير هو لبنان. وكذلك أيرلندة. لا يتجاوز عدد السكان في كل منهما الأربعة ملايين. حصلت أيرلندة على استقلالها عام 1937, وبعدها بأعوام ستة جاء استقلال لبنان.أيرلندة أنجبت الأدباء العظام أمثال أوسكار وايلد, وبرناردشو, وجيمس جويس, وكان من لبنان أقرانهم : جبران خليل جبران, وميخائيل نعيمة، وايليا أبو ماضي, مما رفع بيارق البلدين الجمالية عالية بين الأمم. وكيف لا وقد تجاوز التعليم العالي عند هذا وذاك حاجز الأربعين جامعة, وانتفت الأمية في أيرلندة تماماً بينما انخفضت لدى لبنان الى 1% للأجيال الجديدة ؟ وكيف لا.. وقد اعتمد البلدان الديمقراطية أساساً للحكم؟ فحرية التفكير والتعبير والعقيدة مكفولة تماماً عندهما، وإنشاء الأحزاب متاح بلا قيد ولا شرط, وتداول السلطة قاعدة راسخة في نظمهما الدستورية, العبث بها محال وأي محال.
هكذا هما شبيهان, فلماذا يصل ناتج الإجمالي المحلي في أيرلندة 145 ملياراً من الدولارات, بينما يتوقف هذا الناتج لدى لبنان عند رقم 18 ملياراً فقط؟! ولماذا بالتوازي يبلغ الناتج القومي للفرد الأيرلندي 37000 دولار, ومتوسط الدخل السنوي للفرد 41000 (أعلى من أمريكا) بينما ناتج الفرد اللبناني 4740 دولار, ومتوسط الدخل للفرد لديه 5000 دولار؟!
من أين جاء هذا التفوق الكبير ؟: هل لأن أيرلندة قطعة من أوربا المتقدمة, بينما لبنان حبيس منظومته العربية الهشة المتخلفة؟ ربما كان هذا صحيحاً في جانبه التاريخي, غير أنه ليس صواباً بالإطلاق. وآية ذلك أنه في العصر العباسي (العربي) كان العرب أغنى أغنياء العالم, حين كانت أوربا تضرب في ظلمات الفقر والمرض والجهل. حتى أن الإمبراطورية (المسيحية) تهاوت مزقاً بيد الأتراك العثمانيين عام 1453. وللمفارقة فإن ذلك العام كان بشيراً بنهضة أوربا، حيث ودعت شعوبها – تباعاً – ثقافة الثيولوجيا ( الاتكال علي الباباوات) مستبدلة بها مفاهيم العلمانية Secularism (التي لا تعني الإلحاد بل فصل الدين عن الدولة حسب ُ) ومن ثم فلقد حولت الشعوب الأوربية قِبلتها من الفاتيكان إلى العلم Science بشطريه التجريبي والنظري، فكانت الاكتشافات الجغرافية، والاختراعات، والصناعة : منجزات طبقة البورجوازية Bourgeoisie والتي قادت الثورة بالتحالف مع الفلاحين والعمال ضداً على الإقطاع حتى تمت لها تصفيته ، لتتسع الأسواق وتتمدد ويتضاعف الإنتاج ويتجدد,, والعلمُ بهذا كله محيط, ومطور لأداة الإنسان العظمى: العقل.
العكس من ذلك جرى عندنا نحن العرب. فما أن فقدنا سيطرتنا على البحر المتوسط والبحار الشرقية – في القرن الثالث عشر - حتى انكفأت "بورجوازيتنا" التجاريةُ إلى الداخل ، متحالفة مع سلطات الدول والدويلات الإقطاعية لقهر الفلاحين، وقطع أرزاق الحرفيين، وإجهاض الجنين البروليتاري في رحمه الضيق؛ مما أنعش الفكر الديني الأصولي, الذي راح بدوره يخنق كل إبداع فلسفياً كان أم علمياً حداثياً ، خاصة في مجال العلوم الإنسانية .
وهكذا ظل الاقتصاد لدينا محاصراً بسياسات ولاة الأمور, تلك السياسات التي لم يكن لها من هدف إلا الحفاظ على عروشها, ونهب أقوات شعوبها, تكديساً لثروات غير قابلة للتداول في أسواق داخلية (الركود فيها طبيعي بحكم ضعف القوى الشرائية) أو في أسواق خارجية صارت مسدودة أمامها جراء تمدد الرأسمالية الأوربية الوليدة النشطة، والتي صارت تعضدها قدرات جيوش عسكرية غير مسبوقة تسليحاً وتدريباً.
آثام السياسة
في هذا المقام يمكن الاستشهاد بالمفكر الاقتصادي سمير أمين الذي يرى أن ما يميز المجتمعات الحداثية عن مجتمعات ما قبل الحداثة هو تحديد الأولوية بين السياسة والاقتصاد، فمجتمع ما قبل الحداثة يجبر الاقتصاد على أن يكون تابعاً للسياسة. أما المجتمع الحداثيّ ُ فمقتضيات الاقتصاد هي التي ترسم سياساته. وزيادة في شرح فكرته أضرب مثلاً بالحذاء الصيني، إذ تعوق سياسة أصحابه القدم الحية عن النمو، بل وتشوهها تشويهاً. ذلك بالضبط ما حدث لأيرلندة خلال القرن العشرين، حيث استنفد طاقتها القرارُ السياسي بضرورة توحيد الجزيرة ، فكان تأييد الجمهورية ( في الجنوب ) للكفاح المسلح بقيادة الجيش الجمهوري- الذراع العسكري للحزب الراديكالي الوطني (الشين فين) بدء من عام 1955- مطلقاً لشرارة الحرب الأهلية بين الأغلبية البروتستانتية ثمة الموالية لبريطانيا، وبين الأقلية الكاثوليك المنادية بالوحدة مع نظام الجمهورية في دبلن. ولقد استمرت تلك الحرب الفظيعة لثلاثين عاماً متصلة،كانت فيها أيرلندة أفقر دولة في أوربا! ولكن ما أن وضعت نصب عينيها تحديث اقتصاد بلادها باللحاق بقطار صناعة البرمجيات، حتى تدفقت عليها الاستثماراتُ : أوربية وأمريكية بغير تحفظ.. عندئذ تغيرت رؤيتها السياسية تجاه الوحدة "القسرية" فسعت إلى المصالحة التى ُدشنت في يوم "الجمعة العظيمة" باتفاق بلفاست عام 1998 نصا ً على حق الشماليين في تقرير مصيرهم. بعدها قام الجيش الجمهوري عام 2005 بالتخلص من سلاحه للمساعدة على إتمام التسوية النهائية والتي وضعت كامل السلطة في يد بلفاست وليس لندن، مما يشي باقتراب يوم الوحدة طوعاً لا جبراً، إغراءً بالمستوى الاقتصادي الرفيع الذي بلغته الجمهوريةُ ، وليس عن طريق التهديد أو بالإرهاب الفكري تحت شعار "القومية " العرقية.
تلك التجربة الناجحة ُ ألا تضئ للبنان الدربَ ، فينهض نهضته الحقة مركزاً أولاً على مصالح شعبه "الاقتصادية "عاملاً على أن يكون لبنان للبنانيين وليس للسوريين العرب، أو للإيرانيين الإسلاميين الشيعة، أو للسعوديين السنة ؟
يقينا ً أن لبنان لو فعلها لابد متجاوز اقتصاديات الزراعة المتخلفة، وصناعات الغزل والنسيج والأثاث وتكرير النفط المحدودة بطبيعتها، منطلقاً مع تيار الموجة الثالثة – بحد تعبير ألفن توفللر – الى آفاق صناعة المعلومات والبرمجيات واقتصاد المعرفة، تماما مثلما فعلت أيرلندة
صــــر غنياً
كلمة قالها مبشر البروتستانتية كالفن Calvin ليهدئ من مخاوف المؤمنين حول مصيرهم الأخروي، وذلك بالبحث عن شواهد فضل الله، فما وجد فضلاً أعظم من الرخاء. كان ذلك تأسيساً لأخلاقيات جديدة تنبذ الفقر وتسعى للثروة والتنمية والتميز (روح الحداثة) ويقيناً أن شعبك المتعلم الذكي إذا وضع هذا المعنى أولوية ً ثقافيةً لابد بالغ النجاح بامتياز في محو الطائفية البغيضة ، لينصهر الشعب ُ بعدها في بوتقة واحدة ، قوامها الرخاء المشترك، والتضامن الأخوي، وسقفها – إن كان للتقدم سقف – المنافسة على المراكز العليا في عالم لا يعترف إلا بالنجاح والتفوق. وقتها لا غرو يعود إلى لبنان ما احتل من أرضه في "شبعا" بغير حرب، بل بالتفاوض القوى المعتز بقدراته، وساعتها أيضاً لن يجد "حزب الله": من ذريعة لحمل السلاح ، بل سوف يتحول إلى حزب سياسي يحمي مصالح الفقراء من تغوّل الاستغلاليين المتذرعين بذريعة حماية العقيدة (الصحيحة!) وكفاه بمثل هذا الهدف مأثرة وفضلاً.
ربما كان ما يطلب من لبنان كبيرا ً، والسبيل لتحقيقه وعرا ً محفوفا ً بالمخاطر محلياً وإقليمياً، غير أن اللبنانيين علي اختلاف دياناتهم ومذاهبهم وطوائفهم لا شك يذكرون قول شاعر العربية الأشهر المتنبي :
على قدر أهل العزم تؤتي العزائمُ / وتؤتي على قدر الكرام المكارمُ / وتعظم في عين الصغير صغارها / وتصغر في عين العظيم العظائمُ .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جيك سوليفان: -قرار تجميد شحنة الأسلحة، لا يعني أننا سنتخلى ع


.. اتساع رقعة العمليات العسكرية في غزة رغم الدعوات الدولية لوقف




.. معارك ضارية في الفاشر والجيش يشن قصفا جويا على مواقع في الخر


.. -منذ شهور وأنا أبحث عن أخي-.. وسيم سالم من غزة يروي قصة بحثه




.. بلينكن: إذا قررت إسرائيل الذهاب لعملية واسعة في رفح فلن نكون