الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وداعاً يا حقيبة السامسونايت !

طارق قديس

2008 / 6 / 29
الادب والفن


وانتهى منها ، وقام عن السرير وقد أفرغ في جسدها بداوته الأصيلة ، وتعب السنين ، فيما هي بقيت ممددة برداء النوم الأبيض ، تستعرض جمال ساقيها على طول الفراش وسحرهما ، ونضارة بياضهما الأخاذ .

أخذ يرتدي ثيابه الفلكورية ، يرتبها ، وهو يبادلها الابتسامات ، دون أن ينطق بكلمة واحدة ، حتى دق الباب ، ودخل سكرتيره الخاص ليقول له : ( لو سمحت معاليك، يجب أن نكون في المهرجان الشعبي بعد ساعة من الآن ، لذا ...).

فأشار له معاليه بأن يتوقف ، وهز رأسه مفيداً بأن الرسالة قد وصلت . عندئذٍ عاد السكرتير أدراجه ، وأغلق الباب ، ليجلس هو إلى جوارها، وهي تداعبه، وتمر بيدها على كتفه وشعره قائلةً بلغةٍ إنجليزية مكسرة : ( ألا تستطيع البقاء أكثر ؟ ).

فهز لها رأسه بالرفض ، فتابعت : ( إذن دعني أسألك هذا السؤال. لماذا كلما أتيت إلى بلدنا في زيارة رسمية ، تصر على النزول في هذا الفندق، بل وتطلبني أنا دون الأخريات ؟ ).

فنظر إليها وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة ، ثم أجابها بلغة إنجليزية لا تقل رداءةً عن لغتها: ( أولاً : الفندق هنا ذو خدمة مميزة ، ومُطلُّ . أما عنك، فأنت أدرى بسحركِ ،وجمالك ).

قال هذا ثم جذب رأسها أمامه، ورسم على شفتها قبلة ملوثةً بلعاب فمه العريض، ليقوم بعدها إلى حقيبته المنسية فوق المنضدة القابعة في زاوية الغرفة البعيدة، ويخرج منها حزمتين من الدولارات، ويقذف بهما إلى صدرها عن بعد، ومن ثم يخرج من الغرفة، وقد أهدت له من فوق السرير قُبْلَةً طبعتها على الهواء.

في المهرجان، وعندما نزل من السيارة الليموزين، بدا معاليه أضحوكةً للناس وهو مرتدٍ ثوبه الفلكوري، فهو الوحيد الذي أصر أن يلبس الزي الوطني لبلاده من بين المدعوين، أما عنه فقد حسب الضحك تحية، واستمر بالمرور على الجمهور من خلف الشريط الذي يفصل ما بينه وبينهم في الطريق، حتى توقف في منتصف الطريق، فوق السجاد الأحمر الممدود على طول الممر المؤدي إلى قاعة كبار الزوار، ونظر إلى سكرتيره بفرح وقال له: ( افتح لي الحقيبة).

ففتحها، وبدأ يتناول حزمةً حزمة من الداخل، ويرمي بها إلى الناس الواقفين أمامه، وهو يقول لسكرتيره: ( إنهم أناسٌ طيبون، وليس خسارةً أن نعلمهم كيف يكون الكرم العربي على أصوله. أليس كذلك؟ ).

ظن معاليه أن هذا سيفرح ذلك الجمهور ، لكنه فوجئ بوجوههم قد تبدلت، والضحكات اقلبت عبوساً، حتى أن منهم من ضرب إحدى الرزم بمقدمة حذائه، ومنهم من تناولها ليضعها في سلة المهملات! وآخرون آثروا أن يعودوها إليه بلطفٍ، وكأنهم يقولون له: شكراً ! نحن لسنا متسولين، فأنت لن تشترينا بالنقود، ونحن لسنا للبيع.

أما هو فقد أخذ ينظر إليهم تارة ، وإلى النقود تارة ، وإلى وجه سكرتيره تارة، محاولاً أن يفهم سر تلك الأفعال.

في المساء عاد بحزنه ، وتعبه إلى ذات الرداء الأبيض ، عاد إلى حضنها، ليفرغ همومه على ضفافها، على سحاباتها البيضاء، ويمسح من ذاكرته ضحكات التهكم والاستهزاء، ويحرر جسده مرة أخرى من قيود ثيابه الفلكورية، وكأنه استحال شخصاً آخر دون أن يعلم يقيناً أن ذلك الزي الملقى فوق المقعد الخشبي يحمل سر الضحكات والعبوس.

عاد، وألقى برأسه فوق صدرها كأنه طفلٌ صغير، فيما هي تغرس أصابعها في شعره، وتتساءل في داخلها عن سر الحزن الكبير، متمنيةً لو كان باستطاعتها أن تطلق الأسئلة الساكنة في رأسه، لكنه انتفض فجأة، وتناول حزم الدولارات من حقيبته، ثم عاد ونظر إليها، وهو يصرخ في وجهها قائلاً بذات اللغة الركيكة: ( لماذا رفضوا النقود؟ لماذا رفضوها وفي بلادنا لا يعبدون سواها ؟ ).

وعاد ليلقي برأسه إلى صدرها، وبين نهديها، كأن بناء مرتفعاً قد انهار دون سابق إنذار، لعله ينسى ما حدث، فيما هي تضكك في نفسها وتقول: ( لا يا عزيزي . إن الناس ليسوا مختلفين، فكلهم بشر، والنقود لديهم عصب الحياة، لكنك ببساطة لم تعرف أن هناك أشخاصاً في العالم، لا يمكنك أن تشتريهم مثلما اشتريتني بالنقود.

قالت هذا فيما هي تنظر إلى حقيبة السامسونايت على مقربة منها، وتتلمس بيدها حزم الدولارات التي سقطت من يده بعد أن ألقى برأسه إلى صدرها للمرة الثانية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال