الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حيثيات الاستقالة

طارق قديس

2008 / 6 / 30
الادب والفن


لم يكد مجدي يجلس على مقعده حتى وضعت فتون سكرتيرته أمامه البريد الصباحي وهي تقول بصوتٍ ناعم يكاد لا يسمع :
-تفضل أستاذ مجدي! هذا هو البريد الذي طلبت.

في البدء لم ينصت جيّداً لما قالته، لأنه انشغل بالنظر إلى ساقيها الحنطيتين الساحرتين، وقد أبرزت التنورة القصيرة كامل تفاصيلهما الدقيقة.. والدقيقة جداً. لقد أطال التفحص والبحلقة والتدقيق ، وأوشك لسانه أن يتدلى من فمه لولا أن استفاق على سؤالها :
-أستاذ، هل من خطب؟ هل من مشكلة؟

فأجاب بتردد :
-ها .. لا..لا ، لكنك تعرفين أن هذا هو يومي الأول في المصنع كمدير لدائرة الإنتاج ، والأمر يتطلب أن أفكر قليلاً في أعباء المنصب الجديد، هذا كل شيء.

وتابع حديثه وهو ينظر إلى وجهها تارة ، وإلى ساقيها تارة ، وإلى الأوراق تارة ثالثة :
-المهم … أريد منك أن تستدعي لي الأستاذ إبراهيم من مكتبه فور وصوله ، فأنا أرغب بأن أناقشه في بعض أمور خطوط الإنتاج.

قطّبتْ فتون حاجبيها وجبينها ، وقالت بارتباك :
_الأستاذ إبراهيم؟ .. معذرةً ، لا يمكنني ذلك.

لم يتوقع مجدي هذه الإجابة ، فقال بدهشة :
-لا يمكنك ذلك ! ماذا تقصدين؟

بذات النبرة المرتبكة أجابت :
-لقد .. لقد قدم الأستاذ إبراهيم استقالته هذا الصباح ، وستجدها ضمن البريد. هذا وقد أرفق بها رسالة مغلقة يوضح لحضرتك فيها أسباب اتخاذه هذا القرار، وطلب مني أن لا يقرأها أحدٌ سواك يا أستاذ مجدي.

على عجل ، أخذ يقلب البريد ورقةً ورقةً إلى أن وجدهما. قرأ الاستقالة ، وفور فتحه للرسالة نظر إلى فتون وابتسم لها ابتسامة باردة وطلب منها بهدوء و لباقة أن تعود إلى مكتبها ، وأنه سوف يطلبها حال انتهائه من توقيع البريد لتأتي وتأخذه.

وخرجت فتون ، وعاد هو إلى الرسالة ، بدأ بقراءتها ، والسطر تلو السطر يدعوه للمتابعة والاستمرار ، فالرسالة كانت أشبه بعرض حالٍ مثير يشد قارئه لأن يعرف ماذا يوجد في نهاية المطاف. أما نص الرسالة فجاء كما يلي :

" زميلي العزيز مجدي ، عذراً إن كنت أكسر بما سبق اللوائح النظامية فلا أدعوك (سعادة مدير دائرة الإنتاج)، و لي أسبابٌ تدعوني إلى ما أقدمت عليه لا بد وأن تعرفها بعد قراءتك هذه السطور.

زميلي مجدي … أنت تعلم أني منذ خمسة عشر عاماً تسلمت وظيفتي كمشرف على أحد خطوط الإنتاج في مصنعنا هذا ، تسلمت وظيفتي وأنا بكامل حيويتي وشبابي ، وتفانيت في خدمة المصنع حتى استحال سواد شعري بياضاً ، ونهاري ليلاً ، ونسيت في خضم التفاني المطلق أن قطار العمر كان يمضي بي دون أن ألتفت إلى ضرورة الزواج .إني لم أهتم يوماً بهذا الموضوع لكن عائلتي وزملائي- ومنهم أنت – باستمرار كانوا ينبهونني إلى هذه النقطة وكنت بدوري أتجاهلهم . وبقيت على حالي.

الآخرون بالتملق ، ومسح الجوخ ، و الإطراء ، واللسان المعسول استطاعوا أن يرتفعوا ، استطاعوا أن يترقوا ، حتى من أتوا بعدي ، وبقيت أنا مكاني ، لماذا؟ .. لأني لست مثلهم ، إني خجول ، مستقيم ، لا أضع واطياً لأحد ، لا أمتدح شخصاً ما لم يستحق المديح . الكل من حولي تنقلوا مثل حجارة الشطرنج ، ومنهم من هبط بمظلة الواسطة فوق مقعد الوظيفة ، وأنا وحدي بقيت كما أنا ، وكأني خلقت لهذه الوظيفة دون سواها.

بعد خمسة عشر عاماً تنبهت إلى هذه المشكلة ، وحزنت، وطلبت منك النصيحة –إن كنت تذكر- مع أن عمرك الوظيفي هو أربع سنوات فقط ، قضيتها كلها تحت إمرتي في الخط الذي أشرف عليه ، ولقد توسمت فيك الصدق والجد كأخ و صديق ، فلم تبخل علي ، ونصحتني بتغيير بعض سلوكياتي ، وحاولت ، غير أن هذا لم ينفع لأن المدير العام آنذاك لم يقتنع بهذا التغير المفاجئ ، وهو من حفظني طوال مدة خدمتي . وعليه فتحت عيني على الطريق الأصعب ، وهو أن أدخل إلى قلب المدير من باب آخر ، وكان هذا الباب هو أخته!

أجل .. إن المدير الذي ملك السلطة والمال لم يعرف السعادة الكاملة في حياته، لأنه رأى نفسه بين ليلة وضحاها ، بعد وفاة والده ومن قبل والدته، مسؤولاً عن أخته المعاقة والمقعدة، والتي لم يستطع أن يدخلها مصحاً حرصاً على سمعته وكرامته … لذا اغتنمت الفرصة ، وتقدمت لطلبتها غير مهتمٍ بالعواقب ، وبما سوف تقوله العائلة عني، مقارنةً بالحظوة والصيت الذي سأجنيه عندما أصبح صهر المدير العام .وبدا للمدير أنني قد نزلت له من السماء، وأني مخلصه ، فلم يأبه بفكرته السابقة عني، وبالدوافع الحقيقة لطلبي ، فلم يأخذ منه التفكير وقتاً طويلاً ، ولم يتردد بالموافقة على ما طلبت .هذا ولم يتوانَ عن المدح بي أمام الناس سواء في المصنع أو في حفل الزفاف ، وقد وعدني فور انتهاء شهر العسل أني سأعود إلى المصنع لأجد المنصب الجديد بانتظاري .. منصب مدير دائرة الإنتاج!

واحتملت المصيبة .. أنا متزوج من معاقة ، أمي تبكي ليلاً نهاراً على حظي، والعائلة تندب ، فيما تجاهلت أنا كل ذلك ، تجاهلت حتى المؤخر الكبير الذي اشترطه عليّ صهري في عقد القران ، ونظرت فقط إلى المستوى الاجتماعي الجديد الذي سوف أعيش فيه. لقد نظرت إلى ذلك ، حتى في ليلة الزفاف لأهوّن على نفسي وقع المصيبة كلما نظرت إلى زوجتي على الفراش.

ولم يمضِ الأسبوع الأول من زواجي حتى استفقت على كابوس مريع ، وصباحٍ يحمل معه النبأ الأسوأ في حياتي : لقد أقالوا صهري العزيز من منصبه ، بعد أن وجهت له إدارة الشركة العديد من تهم الاختلاس والتزوير والرشوة . لقد أقالوه ليتبدد معه الحلم الجميل والتضحية المؤلمة ، وليأتي قرار الإدارة الجديد بإجراء العديد من التغييرات الهيكلية في إدارات المصنع ، أولها أن تصبح أنت مدير دائرة الإنتاج ، وآخرها أن أبقى أنا كما أنا !

لذا لم أحتمل الصدمة بعد أن تبددت كل الآمال ، وسُحب البساط من تحت قدمي ، دون أن أتمكن من فعل شيء أقله تطليق المدعوة زوجتي . وعليه وجدت نفسي مضطراً لتقديم الاستقالة ، فلربما يكون هذا الثمن المناسب للمغامرة الحمقاء التي أقدمت عليها في لحظة ضعف."

نظر مجدي إلى الرسالة مجدداً ، ونظر إلى الاستقالة ، فكر ملياً ، أخذ يدير الموضوع في رأسه ليتنهد في النهاية، ويمسك قلمه ، ويكتب فوق الاستقالة : ( مع الموافقة … وتحال إلى الدائرة المالية لمتابعة المستحقات). ومن ثم عاد واستند على مقعده راسماً ابتسامته الباردة مجدداً وهو يردد بصمت : هذا الحل الأنسب بالفعل ، فلقد كان غبياً وعليه أن يدفع ثمن غبائه، ، فهذا الزمن ليس زمن الأغبياء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا