الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


توالد الهزائم- نص حداد

هدى ابو مخ

2004 / 1 / 23
الادب والفن


لم تغب عن عيناي نظرته الصامتة المضطربة كلما مررنا يوما الى جانب كيبوتس مؤور. كان يشير احيانا بيديه الى مكان لم يعد ملكا له, فيمحوه بالذكريات. كان يأتي الى هنا سيرا على الاقدام –فزمان- لم تكن السيارات منتشرة. هناك وضع مصيدة للعصافير. كان امهر صياد بين اترابه – يتمتم مبتسما بفرحة طفلة.
لم يتسن لي ان اساله: هل بكيت يوما عالمك المنهار؟ كان يردد مرارا ان بقائنا في باقة كان حظا من السماء, وانه جيد ان الحرب انتهت قبل تهجيرنا.
كان هاجس الحظ يسكنني. كنت ارى نفسي قبل ان اولد في حضن والدتي اكرر جيلا ثالثا من اللجوء. كنت مذعورة من اللجوء وكارهة للمكان.
جدي توفي بعد جدتي باشهر قليلة. لم يحتمل عالما منهارا اخرا وفضل الرحيل. والدتي روت على لسان جدتي انه وبعد سقوط فلسطين خاف جدي على حياته, اذ كان مقاتلا في الجيش العراقي. كانت الاخبار حينها قد توالت عن اعدام المقاتلين في كل قرية ومدينة يحتلها اليهود. اراد جدي الرحيل, كان يظن ان بامكانه العودة لاحقا بعد انتهاء المعارك, لكن جدتي رفضت "لن ارحل. ان اردت فلترحل لوحدك". لم يقدر جدي على تركها لوحدها فبقي. كانوا ينامون ليلا تحت اشجار زيتون كانت. مجزرة دير ياسين كانت الافظع – قالت يوما جدتي. بعدما توفيت قلت لبقايا ثيابها: السرطان تغلب عليك.
حتى في اخر لحظاتها بكى وجهها الشاحب والمنهك مرضا ان دعوني اموت على سريري بينكم. كانت قد حاربت المرض خمسة اعوام حتى استسلمت. كان القبول بمغزى نظراتها صعبا لابنائها, وماتت بعد قليل.
جيل كامل عاصر النكبة قارب على الاندثار. كلما مات احدهم شعرت وجوب اعلان حداد عام.
اهو اندثار الماضي؟
يجيبني صوت ساخر: "وهل الماضي اشخاص؟ انه هزائم!
لم يعلمني جدي او جدتي كيف بالامكان التعايش مع الهزيمة. او كيف بالامكان رفع الهامة في حين تعلم في اعماقك فاجعة الذل. ما اورثاني اياه كانت مساحات مهجرة لم تعد ملكا لهما وتاريخ حافل بالهزائم يكفي لصنع الف كتاب. كانت جدتي تبكي من شدة الضحك على ذلك الجندي الاردني على الحدود بين باقة ونزلة عيسى. في حرب ال 67, حين راى الطائرات تحلق في الجو صار يطلق العيارات النارية فرحا, ظنا منه انها طائرات عربية. وحين علم الحقيقة القى سلاحه وفر هاربا. حين كبرت, لم اعرف بالضبط ممن وعلى من علي ان اضحك. كنت كلما فتحت التلفاز على قناة الاردن –كانت الامكانية الوحيدة حينها لمشاهدة قناة عربية- ورايت جنودا يمتطون الجمال او يعتمرون حطة بخطوط حمراء ابكي من شدة الضحك. الان كلما رايت جنديا عربيا اضحك او ابكي. هذا هو عصر الفضائيات... والنضوج العاطفي.
فكرت دائما ان اسالهما "لماذا انجبتما جيلا من الهزائم؟" لكن عمرهما المنهك اثار شفقتي.
هي الهزائم تتوالد...
تقول جارة عابرة في نقاش عابر على منعطف هزيمة- عابرة: "نحن اشرف الشعوب العربية. نحن الوحيدون الذين بقينا على ارضنا على الرغم من التهجير". كان عائدة حينها من البنك وقد استلمت مخصصات التامين الوطني. رايت محفظتها منتفخة, فابتسمت بسخرية. تخيلتها جالسة تعد نقودها واسمعها تردد في حديث اخر "تخيلي لو كنا في دولة عربية؟ هل كنا سنعيش بهذا المستوى –الاقتصادي؟". او حين تشتم شارون "هل بامكاننا شتم الملك عبد الله بهذه الحرية في الاردن؟". كنت اقسم في باطني على التبرع بنقود التامين الوطني لاطفال اللاجئين وبعدم شتم شارون لوحده. قلت لها "شتمته وماذا بعد؟". لم اكن اتمالك نفسي من الضحك حين كانت ترد بسذاجة "عبرت عن رايي". كانت تعتبرني متعالية وكنت اعتبرها سطحية. "التعبير عن الراي يصبح مفيدا حين يمكنك من التغيير. وانت لا تغيرين شيئا. صدقيني انه في اللحظة التي سيرون انك تغيرين شيئا مصيريا في هذه الدولة, سيمنعونك. اسرائيل بعلاقتها معك, في هذا الواقع, اردن اخر مع قليل من الحرية المهمشة".
لا احب نقاشا سياسيا بهذا الاسلوب. كلما ناقشت احدا مثلها تمنيت لو كانت السياسة وامريكا واسرائيل والعالم باسره بهذا الغباء. كنت ساسالها كيف يكون العرب في اسرائيل اشرف الشعوب العربية وهم اكثرهم خنوعا لها؟. قلت لها ان الامر متعلق بمرونة الكرامة والشرف العربيين – حسب المصلحة-, وان الشرف ليس ما كان يوما, وان ما تبقى منه غشاء بكارة.  لم اكن اود جرحها بصورة شخصية بالاشارة مثلا الى ثقافتها هي –الثانوية العامة- مقابل ثقافة الكثيرين غيرها في العالم العربي. دائما اخبرتها ان ما تعطيه الدولة لها (لنا!!) من اساليب الرفاهية –الهامشية في المجتمع الاسرائيلي- هو ما يبقي فاهها مغلقا عن اي احتجاج.
الهزائم تتوالد...
يردد رجل امام نافذة صنعها له عامل عربي: "عفوداه عرفيت" (شغل عربي- وتقال على سبيل الاستهزاء بالعمل العربي كرمز للعمل الغير متقن. تقال بالاساس على يد اليهود, لكن عربا استبطنوها وصارت مقياسا لهم). ان اسمع يهودي يستهزئ بعربي فهو امر وارد في هذه الدولة. لكن ان اسمع عربيا (مقموعا) يسخر (يقمع) عربيا اخرا (مقموعا) فهي قمة الماساة, هي الهزيمة بذاتها.
الهزائم تتوالد.
"لماذا اذن انجبتما جيلا من الهزائم؟"
ياتيني السؤال في حلم شتاء عاصف, في مساء يواري الهزائم. لم يملكا يوما اجابة, فكلاهما من جيل عاش الصراع من اجل البقاء, حيث البقاء حيا كان الامل الوحيد. ارى عينيهما منكسرتين في حلم الكابوس: "انها الهزيمة لا تنتهي".
واستيقظ مذعورة. 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد


.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد




.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا


.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس




.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام