الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الله وأمريكا وأحزاب العراق

ياسر المندلاوي

2008 / 7 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


قلما إجتمع لبلد من البلدان، غير العراق، هذا الكم الهائل من التناقضات الصاخبة والتوافقات الضارة، هذا القدر من الإستحقاقات العنيفة لإعادة تشكيل العالم وفق رؤية مركزية لا تجد فينا ما نستحقه أكثر من أن نكون موضوعا للتشكيل، أو موضوعا للتنكيل بهدف إعادة التشكيل بما يجعلنا نلبي حاجة من له حاجة لبراهين تؤكد تفوقه يوم كان ويوم يكون، وتؤكد ضعفنا وجهلنا وتخلفنا يوم كنا، وربما ليوم نكون ما لم نتدارك أمرنا ونتمسك بتلابيب الرحمة الأمريكية التي تسعنا جميعا في ديننا ودنيانا. والحال، إن الإدارة الأمريكية كانت متيقنة من معرفتها بأن العراق قلب الجهات، وموطن الممانعات، ومعنى (الآخر) الذي يراد له أن يرهن حاضره ومستقبله إلى (الأنا) الأمريكية المتمدنة المتحضرة، تابعا لمتبوع. وهي بسبب هذا الإدراك حصرا أقدمت على خوض تجربة (التدمير البناء) في العراق بعد أن هيأت مستلزماتها في صورة إستحضارات للرفيع والوضيع على حد سواء.
ليس من قبيل الصدفة، أو زلة من لسان أخفق بوش في لجمه يوم أعلن وبعبارة صريحة عن الشروع في حرب صليبية. فهو كان يستحضر الله في هيئة صليب، مثلما إستحضره في هيئة أحزاب عراقية، هي أحزاب الله في الولاء والعداء. وقبل هذا الإستحضار كان بوش والسائرون في ركبه يتحينون الزمن ويبتدعون الفرصة لتحقيق وصايا بول جونسون في (عودة الكولونيالية) حيث الدعوة الصريحة لأعادة إستعمار الدول التي تعطلت فيها (الشروط الأساسية للحياة المتحضرة). ومن نافل القول، إن المقصود بعطالة شروط حياتنا المتحضرة، وفق السياقات المعرفية والمؤسساتية السائدة في أوربا وأمريكا هي عطالة ذواتنا المتحجرة
وإنعدام قدرتها على تجاوز طبائعها في الميل إلى الثبات والسكون. وإن حدث أن تحركت إستجابة لقانون الحث لتواجدنا في عالم فيه أمريكا وأوربا، إنما تكون حركة ماضوية نحو ثباتنا الأبدي في مدنية عربية وإسلامية زائفة.
وفق هذه الرؤية البائسة، وتعالي المعرفة المنسوبة إحتكارا إلى أيديولوجيي الغرب، تم إشراك الله في معمعة العراق على صورتين مختلفتين تم إستحضارهما في غفلة من زمن رديء وساسة أكثر رداءة: الله الإدارة الأمريكية وهو يبارك جنودها في إداء رسالة السماء في نشر المدنية والحضارة في أرجاء المعمورة إبتداءً من العراق، والله الإسلام السياسي الطائفي الذي يبارك القتل والدمار والتنكيل والتهجير. ورغم تعارض الصورتين من حيث المعطى الخارجي، فإنهما تشتركان في الوظيفة والهدف على وفق دأب الباحثين الغربيين في تكريس أحادية مصدر الحضارة الغربية فكريا وثقافيا في نسق خاص ينتظم بوحي الروح الخلاقة للغرب في تضادها الدائم مع الروح الخاملة للشرق. وإذا ما توقفنا لبرهة وجيزة أمام تباين صورتي الله سرعان ما نكتشف بأن هذا التباين زمكاني قابل للتلاشي ليحل محله تطابق مفرط بين الصورتين لحظة تواجد الله الإدارة الأمريكية والله الأسلام السياسي الطائفي في العراق زمانا ومكانا.
إن الله الذي قدمه لنا بوش لحظة شروعه في إحتلال العراق حاملا صليبه في يد وراية الديموقراطية والجضارة في يد أخرى، هذا الله الوديع المحب المسالم في أمريكا وأوربا الذي لا يبارح مكانه في الكنائس وأماكن العبادة للمذاهب والطوائف والأديان، ولا يتدخل في شؤون السياسة والحكم، ولا يبعث بشياطينه لإغواء من في قلبه وهن، ولا تستقر ملائكته فوق أكتاف الذين يرومون المراقص والملاهي لتزوده بتفاصيل هفواتهم وزلاتهم وربما مضاجعاتهم لحظة إنقضاء صحوهم في حضرة ما لذّ وطاب، الله القادم إلينا عبر المحيطات لإنقاذنا من شرور ديننا ودنيانا، هذا الله نفسه سرعان ما تغير حاله يوم وطأت قدماه أرض العراق فأمسى وأصبح ثم أمسى يبارك جنود أمريكا في العبث بالإنسان والأوطان مثله مثل الله الإسلام السياسي الطائفي في العراق الذي تمكن من رقاب البلاد والعباد بأمر إلهي من الله أمريكا الذي تشابه معه هنا وتخاصم معه يوم كان هناك.
ربما هناك من يجد فيما نذهب إليه جمعا للقول ونقيضه في الممتنع جمعهما، والحال أن لاتناقض على وجه الحقيقة وإنما على وجه الإفتراض الموهوم، يمكننا تبيان أمره بالقول بأن الله الإدارة الأمريكية في صورته المحلية يستجيب لنداء درجة إرتقاء التشكيلة الإجتماعية الرأسمالية في أمريكا وآليات عملها إقتصاديا وما يترتب على عمل هذه الآليات من بنى سياسية وثقافية وإجتماعية تحاصر الله في المعتقد الشخصي وتمنحه صورة المنكفيء عن النشاط العام. ولكن، ما أن يغادر موطنه في مهمة خارجية لخدمة المصالح الكولونيالية للرأسمالية المتوحشة، يتم تحريره من قيود مجتمع المنشأ ليساهم في إخضاع المجتمعات المستهدفة بوسائل عنيفة غاية في التوحش. والأدهى من ذلك، إنه في ذروة توحشه يبحث عن قرين/شبيه/حليف/عدو محلي، فإن وجده فخير، وإن لم يجده إستحضره في إسلام آباد أو في مؤتمر لندن أو في غيره من المؤتمرات، وربما إستأجره من طهران أو الرياض. أما وظيفة القرين والشبيه والحليف والعدو المحلي (وفي حالتنا هو الله الإسلام السياسي الطائفي في العراق) فإنما يكمن في تقديم الشواهد الصلبة والقاسية عن لاإنسانيتنا وثباتنا وتخلفنا، ومن ثم تبرير إستباحاتهم لنا لتحريرنا من لاعقلانيتنا بعقلانية الدواء من صنف الداء اللاعقلانية.
إن وجهة التناول الثقافي والمعرفي لقضايا مجتمعاتنا في المؤسسات الرسمية (للأمم المتحضرة) تبخيسية إلى أبعد الحدود، وتقوم على فكرة تجوهر مقومات التخلف في ديننا ودنيانا بسبب إفتقارنا إلى العقل والروح النقدية والإبداعية طبعا لا تطبعا، مقابل تجوهر مقومات التقدم في دين الغرب ودنياه بعلة إتصافه بهذه المقومات طبعا وتطبعا. والحال إن تخلفنا وتخلف ديننا هو بسبب تخلف دنيانا وفيه للغرب حصة يشهد عليها التأريخ الكولونيالي، إضافة إلى عوامل محلية لا تتعلق بآدميتنا غير المكافئة لآدمية إنسان الغرب، وإنما بجملة العلاقات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية السائدة في مجتمعاتنا. وبقدر تعلق الأمر بالعراق، فإن الله الإسلام السياسي الطائفي ، وكذا دينه، بالمواصفات الرديئة التي نشهدها، لا علاقة له البتة بالله الحق وبدينه، وإنما بتدهور المجتمع العراقي بعوامل الحرب والحصار والإحتلال، وقبلها جميعا، سيادة فئات إجتماعية طفيلية تعتاش من تخلف المجتمع وتديمه. وكل هذه العوامل ساهمت يدرجات متفاوتة في تبلور إصطفافات بشرية هي أقرب إلى الكتلة منها إلى أي شيء آخر، الأمر الذي إنعكس سلبا ليس على دور المعتقدات الدينية للأفراد والجماعات وحسب، وإنما على الأحزاب السياسية وقدرتها في التعبير عن المصالح المتناقضة للفئات والطبقات الإجتماعية التي بدورها فقدت ملامحها في هيجان بحر التردي المتواصل. إن الأحزاب السياسية العراقية تفتقر لملامح تميزها بعضها عن بعض، إذ لم يعد لدينا يمين ويسار أو لنقل لايمينها يمين ولا يسارها يساركما هي الحالة في أرجاء العالم حيث الأحزاب تتوزع بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، ناهيك عن تواجد الأجنحة المختلفة في إطار الحزب الواحد. الأحزاب في العراق عبارة عن كتل بشرية تبحث عن منافع فئوية على حساب الوطن والشعب، وهي المسؤولة إلى جانب الإحتلال والديكتاتوريات السابقة عن البؤس الثقافي والسياسي والإقتصادي والإجتماعي التي رسمت هذه الصورة البائسة التي نعايشها لتكون في متناول المنظرين الأمريكيين المبشرين بضرورة الوصاية على مقدراتنا، فيها يجدون ضالتهم في تأكيد تفوقهم، وبها يعززون طموحاتهم الكولونيالية في عصر العولمة، عصر الطغمة المالية المهيمنة على مقدرات الشعوب التي يزعمون عدم قدرتها في إستدراك واقعها المتخلف. فنحن وفق الكولونياليين الجدد، أمة نركب حمار تقدمنا بالمقلوب، ولّينا وجوهنا نحو العالم، وضبطنا إيقاع حركة الحمار صوب وهم الحضارة البائدة، ولا مناص لتحريرنا من مقلوبيتنا أن نسلم رباط حمار تقدمنا إلى أمريكا كي تقوده إلى فردوس الحضارة المتجوهرة في الغرب المتقابل مع الشرق غير المتحضر. حينها تكون حركتنا إلى الأمام وإن بدت وجوهنا ناظرة في الإتجاه المعاكس، وحينها فقط يحق علينا القول: أينما ولّينا وجوهنا فثمة حضارة غربية.











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -محاولة لاغتيال زيلينسكي-.. الأمن الأوكراني يتهم روسيا بتجني


.. تامر أبو موسى.. طالب بجامعة الأزهر بغزة يناقش رسالة ماجستير




.. مشهد تمثيلي في المغرب يحاكي معاناة أهالي غزة خلال العدوان


.. البرازيل قبل الفيضانات وبعدها.. لقطات تظهر حجم الكارثة




.. ستورمي دانييلز تدلي بشهادتها في محاكمة ترمب