الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


على مسافةِ رغبات

لمياء الآلوسي

2008 / 7 / 7
الادب والفن



قبل أن ينسج الفجر الشتوي خيوطه ، أطل من نافذة الغرفة الوحيدة ، التي تلم أجساد إخوته الصغار ، في بيتهم الذي يتسامق مع البيوت الأخرى ، فتُلغى المسافات ، وتغدو متداخلة ، فسطح الجيران هو فناء بيتهم الصغير ، إذ ينتصب تنور أمه الطيني وهي تتأهب لتسجره في ذلك الغبش المطير .
خجل بحجم الأرض يكتنفه ، ويمنعه من اختصار المسافات ، إلى المسجد ، واختراق السلم الحجري القصير ، الذي ينزل به إلى بيت العم بمدخله الطويل ، والذي صُبَّت أرضيته على الجانبين بمصاطب حجرية مفروشة طوال الوقت ، تفضي إلى حجرة غطّتْ جدرانُها برفوف تضم عشرات الكتب والمصاحف ، وفي الزاوية ، قبر دارس ، أُهيلت جوانبه بأيدي نساء المدينة المعتقدات بأنَّ حفنة رمل من قبر هذا السيد ستعتقهن من هموم الدنيا ومشاكلها ، يمتلئ المكان بطيب أعواد البخور المتقدة طوال الوقت ، تطلق رائحتها في أرجاء المكان
ولكن كيف ؟ وغالباً ما تكون تلك الأوقات موعداً لحركة العم الدائبة ، وهو يلف أذيال ملابسه البيضاء على ذراعيه ، يحمل إبريقه النحاسي الكبير ، فيصبح جسده الذي طوت ظهره السنون ، هالة كبيرة تذرع الفناء جيئة وذهاباً ، متأهباً لصلاة الفجر .

تلفّّع بمعطفه القديم ، تتلقفه دروب زلقة لا يتبين فيها خطواته ، تعرج به عبر أرض جبلية إلى سوق المدينة الخالي في مثل تلك الساعة من الليل ، تؤنسه أصواتُ ميازيب , ميازيبِ منازل غارقة في غموضها ، يغطيه نثيث المطر ، وذلك الصمت الموشى بالخوف ، لتنحرف به إلى زقاقٍ أكثر رهبة من كل أزقة المدينة ، ومجاهلها الكثيرة .

رغم أنه يجوب المدينة طوال النهار ، ينوء بعشرات الأعمال الصغيرة ، إضافة إلى الأذان في الأوقات الخمس ،التي أوكلها إليه عمه إمام المسجد ، لتلبية احتياجات عائلته الكبيرة التي تأود بها رغم سنوات عمره الطرية ، فعليه بعد أن يؤذن لصلاة الفجر ، إيصال أرغفة الخبز الساخنة التي تخبزها أمه ، إلى المدرسة الإبتدائية في الطرف البعيد من المدينة ، ليعود محملاً بما يجود به مدير المدرسة من فائض التغذية المدرسية ، إلاّ أنه يأبى أن يمد إليها يده ، مكتفياً بالوجبات التي يتمتع بها لقاءَ أعمال البناء في بيوت الميسورين ،

كثيراً ما تمنى لو أنه خُلق في مكان آخر من الارض ، فلا تكبله أفواه إخوته المفتوحة ،
كثيراً ما يتساءل ، لما فرض الله الكد عليّ وعلى الفقراء ؟ والفقراء ...
لما لا يُبقي الفقراء معه هناك ما داموا أحبابه ؟
لم يكن الظلام يخيفه كثيراً ، إذ عرف معجم متاهاتهِ ، لكن ذلك الزقاق الضيق ، المنحدر باتجاه النهر ، قريباً من المسجد ، كان يصيبه بالهلع ، يملأه بعشرات الحكايات ، كلما دنا منه
فعلى الجانب الأكثر ظلاماً ، تقبع بقايا بيت متهدم غائر إلى الداخل ، وسط جدران البيوت العالية التي تحيط به من كل جانب ، تنتشر في وسطه أجمةً تقصَّفتْ جذوع الشجر فيها ، مهملة يثيرها هفيف الريح فتطلق أصواتاً تقتلعه من كل محاولاته ، وتراتيله التي يذخرها لحين مروره من هناك ، تتسارع خطواته العجلى ، يتلو أدعية كانت تودعه بها أمه كل يوم ،
أجفلَ لمواء قطة مرقت من أمامه ، وكان الظلام المحدق في كل ركن ، قد أفقدها لونها .

راعه في تلك اللحظة ضوء ، أنار الطريق كله ، يشع من ذلك البناء القديم المتهدم بل أن أجمة الأشجار المهملة ، تحولت إلى حديقة غناء غاية في الجمال ، أراد أن يهرول مبتعداً ، لكنه هذه المرة توقف مبهوراً تتقاذفه رغبة بالهرب ، وأخرى في اكتشاف المجهول وخباياه اللعينة !
أطرقَ تسوره اللهفات لاقتحامها ،
فعلى خطوات قليلة ، ارتفع بابٌ حديدي مزركش بزخارف متضاربة الألوان بديعتها
وممرٌّ رَحِبٌ تنيره مصابيح باهرة الضوء ، لو وزعت على أزقة المدينة لحالت لياليها إلى ظهيرةٍ ، أرضيتها المرمرية ، تعكس ضوءاً إضافياً ، تنير ما في داخله من صبوات ،
تربعت امرأة بديعة الجمال على أريكة ، مزينة بالورد ، والحلي التي زادتها فتنة وجمالاً
امرأة لم يرَ في مدينته كلها بجمالها ، وغنجها ، نهضت لمقدمه ، وتحركت نحوه حافية القدمين
وكأنها تمشي على أرض ليس لها قرار ، وشَعرٌ بلون الفجر يتطاير خلفها ، أزاحت بذراعيها البضتين مأزرها عن جسد مرمري ، أحس أنَّ بريقاً تساقط باتجاه الأشجار المشرئبة أعناقها حول البيت وحول تلك المرأة ، فأظهرت نورها الأخاذ
- إدخل أبا جعفر ولا تخشَ شيئًا ، فالحياة هنا
أشارت إلى مجلسها الوثير ، بملابسها الفضفاضة كاشفة عن مفاتنها ، أراد أن يبتعد لكنَّ يديها الممتدتين إليه ، أغرتاه بالدخول ، أحس أنَّ قدميه ستفضيان به إلى شطآن ، خشي أن تتشابك ظلالها ، وإذ تُسقطه فيها ، لن يتمكن من الفكاك منها ،
إنها تدعوه لدنيا لم يكن يعرفها من قبل ،
دون أن يعي شيئاً كان بين أحضانها ، مشفقاً عليها من ملابسه المبتلة القديمة ، ومن أصابعه المغروسة بالطين ، ومواد البناء ، كأنها حشف عافته الحياة .

سحبته إلى داخل غرفة جانبية باذخة الترف ، أرتَقتْ فراشاً وثيراً ، بلون زهري زاهٍ ، فظهرت ربلتا ساقيها الممتلئتين ، فتعالى وجيب قلبه ، سقته شراباً لم يذقه من قبل ، وضجيج ضحكاتها الرخصة يغمره بالدفء والحياة ,
احتوته بين ذراعيها ، فضاعَ في أفراح تشابكت فما عاد الليل ليلاً .

من بعيد .. تعالى صوت الآذان ، فتعرف اليه , إنه صوت عمه الذي بقي قوياً رغم تعب السنين ، فدفع المرأة عنه , وبدون أن يدري لاح وجه أمه المتعب خلف تنورها الطيني ، تردد حوله أدعيتها الحانية .
ركض خارج خدرها ، لكنها أزلجت الباب الحديدي دونه ، تحولّ فرحه المباغت إلى سُخط يعتصره ، فدفع المرأة عنه، تشبثت به ، فأزاح يديها عن عنقه ،
صرخ بها : إبعدي ناركِ عني !


في لحظات كأنها الدهر كله ، رَمَقَها , كان قد جللها ضوءٌ بامتداد الريح ، تمتطي صهوة جواد أشهب ، يرتقي بها فوق ذلك البيت ، آخذةً معها كل بهائهِ ونورهِ ،
فعاد نثيث المطر يزغرد على وجهه المحموم ،
تلفت بوجل ، كان وحيداً مبتلاً حد العظم ، مهجوراً في ذلك الزقاق ، وكان البيت كما هو غائراً في أعماق الجدران العالية ، لهذه المدينة التي تسرق الحياة عنوة ،عاد الصمت يخيم على ذلك المكان ، عندها عرف أنه فقد كل أشيائهِ هناك .
سطوح البيوت المتداخلة ، وتلك الفتحات الصغيرة التي يسميها الأهالي نوافذ ، مطلة على الأزقة ، تتلصص خلفها عشرات العيون ، كل شيء يرقبه ، ويشي بما أقدم عليه ،
جاءته رائحة خبز أمه ، والسماء تمنحه ذلك الشعور بانجلاء الوقت ، كان مسمراً في مكانه ، وحمى الخوف تبث فيه رغبة حارقة بالهرب ، وحزن يشعره بأنه سجين في تلك الزاوية من الزقاق ، كان مبتلاً ، مسكوناً بصوتها ، لكن هل تغسل قطرات المطر دنسه ؟ هل تمحو وجهها وعطرها المغروز فيه ؟
في لحظات كان يرتقي سلماً خشبياً امتد من أحد الجدران ، ليوصله إلى فناءات متداخلة وأصوات تدعوه للدخول ، لكنه كان يغادرها ، باحثاً عن بيته المفقود ، وخبز أمه الذي أصبح بارداً ، منقوعاً بالمطر ،

رأى في الظلام ، خلف شعاع الفجر المنثال كشلال من الحنين ، قامةَ عمه وهو يمتشق سيفاً صدئاً ، يقف أمامه غاضباً ، يسد عليه منافذ الحياة ، عندها غاصت قدماه في أرض طينية لزجة ، وما عاد يرى شيئاً


**** ****

تنبه إلى همسٍ متداخلٍ يحوم حوله ، ونساء يحكمن قبضتهن على جسده ، وخدرٍ لذيذٍ يتملكه ، كان ممدداً في تلك الحجرة إلى جوار القبر ، إخوته الصغار يتلصصون النظر إليه من وراء أمه الواجفة ، مدير المدرسة ، عمه الذي يكبِّر في أُذنيه ، الكل يحدّق به ، كيف للأرواح الشريرة أن تُحكم قبضتها عليه ، وسط كل هذا الفيض من الإحتشام والتردد ؟!
لكنه كان مأخوذاً بتلك المرأة ، التي كانت تغمزه ضاحكةً ، يطالعه وجهها بين الكتب المرصوفة على الجدران ، تبعد عنه ثم تدنو
، تبسّم لها ، فمدت له ذراعيها ،
ضحك مقهقها ً،
- عدتِ..؟ عادت بك خيولك الجامحة ، سباتُ الكون حولي دعاكِ إلي .
لطمت أمه خديها صارخة :
- وتقولون : لم يُجَنَّ ؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رحلة عبر الزمن من خلال الموسيقى.. السوبرانو الأردنية زينة بر


.. السوبرانو الأردنية زينة برهوم تبدع في الغناء على الهواء في ص




.. السوبرانو الأردنية زينة برهوم تروي كيف بدأت رحلتها في الغناء


.. بعد استقبال جلالة الملك للفنان عباس الموسوي.. الموسوي: جلالت




.. صباح العربية | بحضور أبطاله ونجوم وإعلاميين ونقاد.. افتتاح ف