الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


للفقر مصداقية باكية .... ج / 5

حسن جميل الحريس

2008 / 7 / 9
الادب والفن


نيام .... ح / ( 1 )

- ضابط الشرطة أنور : هل أنت عاقل ياهذا لتفعل ما فعلت ؟
- المعتقل فرحان : أقر ياسيدي وأعترف أنني فعلت ذلك فافعل بي ما شئت .
أجابه الضابط أنور وهو يتصفح ملفه المدني ساخراً منه :
- أنور : ماشاء الله !! سجلك حافل بمعتقلاتنا ... اعتقلناك عشرة مرات خلال عامين فقط !!! وبالتهمة الأخلاقية ذاتها ... لماذا ؟
- فرحان : لماذا عن ماذا ياسيدي ؟ على العشرة مرات ؟؟ أم على التهمة الأخلاقية ذاتها التي لم أرى أجدى منها لأنام !
- الضابط أنور : إنك معتوه حقاً ! ماشأن جريمتك الأخلاقية بنومك ؟
- فرحان : جريمتي الأخلاقية هي التي ستدفعك ياسيدي لتؤمّن لي مكاناً أنام فيه وأرتاح .
سقط الضابط أنور على كرسيه وهو يتأمله ثم طلب منه أن يجلس ليحاوره بعدما أدهشه بجوابه الغريب وسأله :
- أنور : تقول أنك اعتدت على جريمتك الأخلاقية كي تحوز على مكان تنام فيه وترتاح ؟!
- فرحان : نعم ياسيدي .
- أنور : ما قصتك يافرحان ؟ ثم غريب أمرك فاسمك فرحان بينما حياتك كلها لاتمّت بأية صلة لفرح أُنسي أو سرور جان !
- فرحان : كان من الأفضل لأبويّ أن يختارا لي اسم ( تعسان أو يأسان ) ... كان ترتيبي العاشر بين إخوتي الستة عشر .... وكانت أمي تشتري لأخي الأكبر قميصاً واحداً مستعملاً يمر على أجسادنا كلنا على مدى سنوات وكذلك حال الحذاء والبنطال .. فهم أكثر مآثر تاريخنا المحفوظ في ذكرياتنا البائسة .. لقد تمتعت ملابسنا بميّزة يندر أن تلقاها في ملابس أقراننا البشر .... إذ نحتت على أجسادنا كلها أناتها وتأوهاتها صارخة بعنفوان :
- أرجوكم أطلقوا حرياتنا وحرروا خيوطنا فقد بلغنا الكِبر وصارت ملامحنا دون نسج أو ألوان ... وأمثالنا من الثياب لها فترات صلاحية ... وصلاحية استعمالنا انتهت منذ عقود وسنوات ...
وتابع فرحان سرد معاناته ضاحكاً :
- أذكر أن حذاء أخي الأكبر قد حان دوره وسقط تحت قدماي وكان بحالة يرثى لها ... إذ هلّ عليه قانون العجز ببركاته وفتح على وجهه وبطنه فتحتين كانتا تشربان من ماء الأرض كلما أمطرت علينا بركة السماء ... وفي غير مرة كنت أسمع حذائي يأن شاكياً لي أمره : (( أرجوك يافرحان ... أنت طيب القلب وطاهر المداس .. أرجوك أن تطلق سراحي وتخرجني من خدمتي لكم ... ففي الأمس القريب كنت بخدمة أخيك الثامن بترتيب عائلتكم السعيدة وقد أرهقني لدرجة الإنكماش ... ومن ثم نقلوا خدمتي لقدمي أخيك التاسع الذي أهلكني وأهانني حتى أصابني فتق في البطن والحجاب ... وصار مقعدي رقيقاً من الحفّ والشحط وعدم الإتزان ، واليوم ... اليوم نقلوا خدمتي لتحت قدميك الناعمتين فهلا أنصفتني وأخرجتني على المعاش !! )) .
- الضابط أنور : كفى كفى ... ماهذا ؟؟؟ كيف يشعر الزوجان بلذة حياتهما الزوجية بعدما أنجبا عشرات الأولاد ؟؟ ألم يفكرا للحظة واحدة أن سعادتهما ليست وقفاً على كثرة الأولاد !! وماذا بعد يافرحان ؟
- فرحان : مر زمن علينا خَبرنا منه أننا بلغنا ريعان الشباب .. وكانت أحلامنا تعرش على كروم أجفاننا ننتظرها لتنضج كي نصطاد منها بضع حبات ... وفي ليلة رمادية لبى أبي نداء ربه ولحق لجواره وانتظم واقفاً في دوره ليوم الحساب خلف أرتال طويلة جداً من الفقراء ... ولم أكن سعيداً لوفاته ولكنني بالوقت ذاته كنت عادياً جداً فلم أحزن عليه كثيراً ولم أخجل من فعلته تلك لأن من حقه أن يرتاح قليلاً من معاناته اليومية المتجددة باستمرار ... وربما كان المكان الذي انتقل إليه أفضل حالاً من قبور نعيش فيها بدنيانا ليقولوا عنا أحياء ... ولعله سيكون مسروراً هناك وميسور الحال ... فالموت عند الفقراء في أحسن حالاته يعتبر باب خلاص لهم من معاناتهم الدائمة .. بينما هو عند الأغنياء بمثابة حالة تنقلهم لمرحلة أخرى تزداد فيها كنوزهم عبر ميّزة حصر إرث التركات ... ولهذا نحن مؤمنون بأن صحائف الفقراء خالية تماماً من ميزة حصر إرث التركات المنشأة أساساً لتحيا فاعلة بصحائف الأغنياء ...
قرع الحاجب باب مكتب مولاه ثم دخل وحيياه فالتفت الضابط أنور إلى فرحان وسأله :
- أنور : ماذا تشرب يافرحان ؟ لدينا شاي وقهوة وزهورات .. أم تريد شراباً بارداً ؟
- فرحان : أشرب !!!!!!! بل أرجوك أن تأتني بلفافة بيض مسلوق مع بضع لفائف دخان .
أشار الضابط لحاجبه أن يأتيه بما أراد ثم سأل فرحان :
- أنور : برأيك ماذا يتمنى الإنسان ؟
- فرحان : كل مايتمناه المرء أن يحيا كإنسان .
- أنور : بت متأكداً أنك إنسان حي ولهذا أمرنا لك بما رغبت به من طعام وشراب .
- فرحان : طعام وشراب ؟؟!!! غريب حقاً !!! وكذلك الدواب تأكل من الخشاش ... ونحن الفقراء بنظر حكامنا مجرد أرقام سجلوها على دفاتر الإحصاء ولهذا نشعر بأننا أقلّ شأناً من مجترات ووحوش مأسورة بسجون مرفهّة بحدائق الحيوان ... كم تمنيت أن أكون يوماًَ ما عالم فيزياء أو كيمياء ... ولم أتخيل أبداً أنني سأكون مجرد فضلة واحدة من فضلات خارجة عن تفاعلات الحياة ... نحن ياسيدي فقراء ... وببساطة شديدة جداً ... الفقراء هم المواد الرئيسية لأية معادلة هدفها إنتاج أموات ... ولسنا في وارد أية معادلة هدفها إنتاج حياة بل نحن مجرد حواجل استهلاك لإختبارات تفاعلات الحياة ...
- أنور : هل أفهم من حديثك أنك لست وطنياً وأنك من الأموات ؟
- فرحان : لقد ذهبت بعيداً ياسيدي !!! ربما نحن موتى مزيفون نتزين بأننا أحياء ... ولكننا لسنا خونة أو عملاء ... فأغلب جواسيس الخيانة هم من فئة الحكام والأغنياء .
- أنور : ولكن أغلب الفقراء انتهازيون ومتسلطون على رقاب الناس بالسطو عليهم وعلى حياتهم .. وقد عرفت كثيرين منهم .. لأعطيك مثالاً على مكرهم ... كان أحدهم متزوجاً وله أربعة أولاد ... وكانت حال يده عمياء لدرجة أنها غير قادرة على رؤية ذرة مال ... وذات مرة التقى بفتاة طيبة أثراها أبوها بحياته وأورثها كنوزاً بعدما مات ... وقد خدعها قائلاً لها :
- ((( أنا أرمل ولي من زوجتي المتوفاة أربعة أولاد ... وكان زواجي منها عادياً جداً كونها ابنة خالتي العاقدة عليّ منذ كنا طفلان ... وقد أجبروني على زواجي منها وفق تقاليد بالية أكرهها ولكنها سحرتني في ليلة زفافنا إذ وضعت لي مخدراً بكأس عصير البرتقال ... ))
لانت تلك المسكينة بعدما أسرها في مكيدته واتخذت قرارها أن تقف بجانبه وتنتشله من مصاعب الحياة .. حتى عادت لأهلها بالقطيعة والهجران وبقيت وحيدة تحت براثنه ينفذ فيها مشاريع احتلاله لمملكتها واغتصابه لإرثها وجمالها لدرجة الإنكار ... وبعدما قوّضها وسلب حياتها جلست أمامي باكية تشكو لي أمرها قائلة :
- تخيّل ياسيدي ... كان يقول لي أن ولده الصغير يرتجف من شدة برد الشتاء وليس في منزله مدفأة أو وقود نار يتدفأ عليه فاندفعت واشتريت له كل مايحتاجه ولده كي ينعم بالسرور والإطمئنان ... لقد منحت أولاده كل أسباب الراحة في معاشهم ... ولكنه كان يخدعني !!! اشتريت له ولعائلته كل ماسألني !! ثيابهم وأثاث منزلهم وحتى أدوات مطبخ منزلهم كانت من أفخر الأصناف رواجاً كي لايشعر ولو للحظة واحدة أنه قاصٍ عن أريج الحياة ... كنت بالنسبة له مجرد خزينة مال يستنزفها بينما كان بالنسبة لي زوجي وقرّة عيني كي أنال رضا ربي وأكون بين يديه أمينة الزوجات ... اذكر عندما اشتريت له أثاث منزله قد رفعه ورتبّه بسيارة شحن .. وبدل أن يذهب به لمنزله ذهب به لسوق آخر وباعه كما هو وقبض ثمنه دون علمي وكذلك كان يفعل بكل شيء ناله مني بالخديعة والنكران !! كان يغريني أنه سيبيت عندي في منزلي الذي ورثته عن أبي بتلك الليلة .. ومن سوء حظي أنني تزوجت به راضية بأن يبيت عندي ليلة واحدة بالإسبوع كي أوفر له الفرصة لينام بين أولاده الصغار ... واذكر أنني طالبته مراراً وتكراراً أن يأتي بأولاده ليعيشوا معنا ولكنه كان يتعلل بأن جدّتهم ترعاهم منذ توفّت زوجته وليس باستطاعتها الإستغناء عنهم مهما كانت الأسباب ... لقد احتملت مسؤولية بيتين من أجله ولأجل غير مسمى لإرضائه وإصلاح أمره فماذا فعل بي !!! كان يعودني في بيتي لساعات فقط ليسلبني ماأملك ثم يطرحني ويخرج من عندي قبل أن ترفع المآذن آذان المغرب بلحظات ... وغير مرة رنّ هاتفي فألقيت إليه سمعي قائلاً لي :
- (( حبيبتي .. سأتغيب عنك أياماً عدة فلا تبتئسِ وادعي لي بالفرج لأعود إليك سالماً بمشيئة الله ))
دخل الحاجب لمكتب مولاه ووضع لفافة البيض وكأس الشاي أمام فرحان ثم ألقى تحيته المعتادة وخرج فتابع الضابط أنور حديثه قائلاً :
- أنور : أين وصلنا يا فرحان ؟
- فرحان : حينما هتف لها زوجها ...
- أنور : ................
................ يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انتظرونا غداً..في كلمة أخيرة والفنانة ياسمين علي والفنان صدق


.. جولة في عاصمة الثقافة الأوروبية لعام 2024 | يوروماكس




.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم


.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب




.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي