الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوتوبيا حينما يلامس الخيال الحقيقة

أحمد منتصر

2008 / 7 / 9
الادب والفن



أما قبلُ، فإن يوتوبيا هي صرخة تحذيرية مجلجلة في الوقت الذي نمدّ فيه الإسرائيليين بالغاز وتستند الصناعة المصرية إلى مكوّناتٍ إسرائيلية لازمة لترويجها في السوق الأجنبية.
في رواية يوتوبيا الصادرة مؤخرا عن دار ميريت بالقاهرة للأديب أحمد خالد توفيق، نفاجأ بخيال رجيم كلنا نحذر منه بعد أن عاينا إرهاصاته الأوّلية في واقعنا المصريّ عقب الانفتاح الاقتصاديّ الذي بدأه السادات. وعقب التعاون الاقتصاديّ بين ثلة من رجال الأعمال المصريين مع أمريكا وإسرائيل مجسّدين الوجه الآخر
-الأقبح- للرأسمالية ألا وهو الاحتكار.
ففي يوتوبيا بقدر ما يغرّنا اسم الرواية، بقدر ما نفزع كلما توغلنا أكثر وأكثر في صفحاتها المؤلمة الصادمة. ففي الساحل الشماليّ انعزل ذوو الحكم والمال والنفوذ عن عامّة الشعب محوّطين أنفسهم بسور باطنه فيه (الرحمة) وظاهره من قبله العذاب والجوع والفقر، حيث المشرّدون وحيث استوى ههنا الفقير مع ميسور الحال على أرضية واحدة تدعى أرض الأغيار.
يوتوبيا أفضل من ألف صرخة وألف مؤتمر وألف مقالة. ذلك أنّ الأدب عندما يلامس الروح يُشجيها.
تدور أحداث الرواية في فلك عام 2020 أو ما يليه بقليل. (هذا الجرح أجراه لي طبيب إسرائيلي متخصص في هذا الفن..يقول درسه في نيويورك..كان اسمه إيلي، وكان شابا ظريفا..قال لي إنّ أباه أصيب بجرح ممائل في حرب عام 1973 مع المصريين، وسألني إن كنت أذكر شيئا عن الموضوع..قلت له إنّ لي عما توفيَ في هذه الحرب، لكني لا أعرف التفاصيل..هذه أمور مرّ عليها خمسون عامًا...) هكذا!..صار الإسرائيلي يقطن بمصر دون مكدّرات ولا منغّصات برفقة مصريين (غرباء) وهذا ما يتمناه الإسرائيليون بلا شك، وما لا يجد الخونة المنسوبون إلى أرض مصر الزكية الطاهرة ظلما وبهتانا غضاضة فيه، وفي إجرائه تحت اسم التطبيع والسلام.
أقترح تحويل الرواية إلى فيلم سينمائي، أتمنى نجاحه وخروجه بالمستوى المطلوب.
(من أنا؟..دعنا من الأسماء..ما قيمة الأسماء عندما لا تختلف عن أي أحد آخر؟) هكذا يقول راسم الغرّ من يوتوبيا، يبغي اللهو ولا يجده مثيرا وممتعا وهو مازال في السادسة عشرة من عمره بعدُ إلا بالصيد (حيث يتوارى الموت خلف الأسلاك الشائكة، فلا يصير إلا لعبة يحلم بها المراهقون) هكذا يمكنك أيها اليوتوباوي صيد من تشاء من (الصراصير) التي بالخارج مسريًّا عن نفسك مفرّجا عن همك وغمك لأن من بالخارج لم يعودوا بشرًا منذ وقت طويل.
في يوتوبيا حيث الآيات المقلوبة: (القراءة بالنسبة لي نوع رخيص من المخدّرات. لا أفعل بها شيئا سوى الغياب عن الوعي. في الماضي –تصوّر هذا- كانوا يقرؤون من أجل اكتساب الوعي).
(لا جديد تحت الشمس ولا يوجد شيء واحد يمكن تعلمه بعد هذا..هناك خلل اجتماعيّ أدى إلى ما نحن فيه، لكنه خلل يجب أن يستمرّ..كل من يحاول الإصلاح يجازف بأن نفقدّ كل شيء) الصواب المطلق آفة المتطرفين أينما كانوا وحيثما وجدوا، والصواب المطلق عن حق هو الديمقراطية وتقبل الآخر.
كيف يعيش الشاب في يوتوبيا؟. يقول راسم: (أصحو من النوم..أفرغ مثانتي..أدخن..أشرب القهوة..أحلق ذقني..أعالج الجرح في جبهتي ليبدو مريعًا..أضاجع الخادمة الأفريقية..أتناول الإفطار..أصبّ اللبن على البيض وأمزق كل هذا بالشوكة..ألقي بالخليط المقزز في القمامة..أتثاءب..أضحك..أبصق..ألتهم اللحم المحمّر..أدسّ أصبعي في حلقي..أدخل غرفة نوم لارين لأفرغ ما بمعدتي على البساط..أضحك..أدسّ أصبعي في أذني..آخذ زجاجة ويسكي من البار وأجرع منها..أرقص..أترنح..أقف فوق أريكة..أتقلب على البساط..أقرأ الجريدة التي لا تزيد عن اجتماعيات يوتوبيا..) هكذا يروي لنا راسم كيف يقضي يومه شاعرا بالملل بعدما فعل كل ما يمكن فعله في يوتوبيا. وهنا تثور في ذهنه من جديد فكرة صيد أحد الأغيار من خارج الأسوار والرجوع بتذكار هو قطعة لا بأس بحجمها من جسده!.
وهكذا يستدرج راسم وفتاته جرمينال ذكرًا وأنثى يقاربانهما في الحجم، يضربانهما، ثم يلبسان ثيابهما . ومن ثمّ يركبان حافلة العمال العائدة إلى أرض الأغيار متخفيان.
إنّ الصراع الرئيسيّ في الرواية قد تمثل بين اثنين مثقفين الأول هو راسم الصياد من مجتمع يوتوبيا الراقي، والثاني هو جابر الفريسة من عالم الأغيار.
الاثنان قد قرآ كثيرًا حتى ملا. القراءة بالنسبة لهما هي نوع رخيص من المخدّرات. لا يفعلان شيئا بها سوى الغياب عن الوعي. هذه وجهة نظرهما الملفتة للانتباه كما نرى. فكثير من الصغار الانطوائيين يقرؤون من أجل خلق عالم مواز لعالمهم الممل المقيت.
أعجبتني تقنية أدوات أحمد خالد توفيق السردية. فهو قد عبّر جيدًا عن طفل مراهق مدلل ثريّ فاسد. لاحظ تعبير (يا بنت يا ماهي!) الذي نقله أحمد خالد توفيق على لسان راسم كمثال على دقة وروعة لغة وأسلوب الرجل عند تقمصه لشخصية ما. كذلك عند نقله لحوار راسم مع لارين (ص 28).
(حكيتُ لها عن كثير عزة فقالت لي: اتنيل. فتنيّلت..) على لسان جابر. والذي هو إنسان عشوائيّ في عالم الأغيار بشبرا، طالما تذكر النساء اللائي عرفهنّ. ذلك أنه يبحث عن العاطفة المتأججة السامية لا الجنس والمتعة اللا إنسانية بعكس راسم. (حلم ما بعد الجنس) هذا هو ما كان يشغل بال جابر كثيرا، كان يحلم بالجنة النفسية، جنته هي عالم مثالي يتنفس فيه أريج الحب، ليوتوبيا حقيقية كان يرنو الغرض منها هو تحقيق سعادة البشر بصورة عادلة.
(الأرقام لا تكذب). هكذا كان جابر يحذر كل من يعرفه. (حُجاج) يهربون من الفندق ببلاد الحجاز!. ازدياد معدلات الجرائم في مصر عن ذي قبل: قتل. اغتصاب. تمييز جنسيّ عنصريّ تجاه الإناث. وأودّ أن ألفتَ النظر والانتباه إلى أنّ دعوات حضّ المرأة على عدم استكمال تعليمها ولزوم البيت، وتغطية سائر جسدها بلباس فضفاض بدعوى أنها كلها عورة، واختزال دور المرأة المجتمعيّ في الإنجاب وأعمال البيت فقط؛ كل تلكم الدعوات فيها خطر كبير على تقدم مصرنا الحبيبة. فالبلد الذي لا يتقدم، يتأخر. والإناث نصف المجتمع إن أغلقنا عليهنّ أبواب البيت بالأقفال والمتاريس عُدِمن الثقافة والفن والوعي اللوازم لتقدم أية أمة ترنو إلى الكمال والمثالية.
(أحيانا أشعر أنّ المصريين شعب يستحق ما يحدث له. شعب خنوع فاقد الهمة ينحني لأول سوْط يفرقع في الهواء) قالها جابر وهو الرأي الذي لا يبطل إبراهيم عيسى يردده دومًا ويخالفه فيه الكثيرون. شخصيًا أرجو من الفريقيْن وضع أطر فعّالة لتوعية الشعب المصريّ سياسيًا واجتماعيًا ودينيًا بدلا عن إطلاق الأحكام المخيّبة أو الزائفة الخرقاء. وخير الأمور الوسط، وإن كنا لا ننكر وجود أزمة وعي سياسيّ واجتماعيّ ودينيّ في مصرنا الحبيبة نرجوا أنْ يتنبّه لها الشعب المصري سريعًا بيد أنّ مصيرنا واحد..وكذلك مستقبنا.
لا يخلو أسلوب أحمد خالد السرديّ دومًا من الدعابات: (أفضل الغشاشين طرًا هو من يغش المخدّرات..هذا رجل قديس يعمل لمصلحة الناس في رأيي..إنه مصلح اجتماعيّ ينعم بالمال) كما يعتقد ويقول ويفعل جابر.
قوم يوتوبيا هؤلاء مجانين بلا شك، أنصِتْ إلى نصّ مقاطع من أغانيهم التي أوردها المؤلف توقن بذلك:
(والآن يا صغيرتي انظري لي واتلي صلاتكِ الأخيرة..
إنّ عناقي المشبوب سوف يهشم ضلوعكِ..سوف أعتصر روحكِ ذاتها..
عندنا تصعد إلى السماء مهشمة تستند على عكازيْن..
سوف تسألها الملائكة عمّا حلّ بها..
ستقول: لقد نمت مع الشيطان ذاته..
الشيطان الذي أثملته صرخات العذارى قبل الذبح..).
ساديّون. دمويّون. ملعونون في كل سماء:
(تنسحق الشمس إذ تطؤها أقدام الكوكب الأحمر..
تصرخ الملائكة خوفا..
أنتَ فريستي..أنتَ لي..
فقط عندما تصير جزءًا من خلاياي بعد الافتراس..
عندها تعرف معنى الأبدية..).
وفي الصدى البعيد يتردد قول عبد الرحمن الأبنوديّ في الرواية:
(إحنا شعبين..شعبين..شعبين).
الفجوة الكبرى الحادثة بين عالم الأغيار (الفقراء)، ومجتمع الأغنياء (يوتوبيا)، يشير الكاتب إلى أنها موجودة بالفعل هذه الأيام: (الصورة التي تريانها كانت موجودة منذ البداية ولكنْ بشكل غير واضح، ثم تضخمت شيئا فشيئا...يصير الأغنياء أغنى والفقراء أفقر، ثم تأتي لحظة يحدث فيها الانهيار) كما يقول جابر لراسم وجرمينال. وهذا بالفعل حاصل هذه الأيام بعد زيادة الأسعار بنسبة 100% وستزيد أكثر وأكثر، حتى يأتي الوقت الذي لن يشتري فيه الفقير ذهبًا، ولا بيتا، ولا طعامًا صالحًا، ولا كتبًا، ولا أملا، ولا حُلمًا، ولا..حياة!!.
في فهمي الشخصيّ للرواية فإنه بعد موتِ جابر وثورة الأغيار لموته، بقي راسم، وبقيت يوتوبيا -ولو لأجل بسيط- ذلك أنّ الكاتب أورد فِقراتٍ تتضمن أحداثا جرتْ لراسم برفقة جابر قبل أن يلتقيا.
هناك غلطات لغوية بسيطة ولكنها كثيرة في الطبعة الأولى أرجو أن يتغمّدها مصحح دار النشر برحمته في الطبعات التالية.
اغتصب جابر جرمينال فتاة يوتوبيا: (هذا هو النصر الوحيد الذي أستطيع تحقيقه..قهر هذه الفتاة ليس قهر أنثى بل هو قهر طبقة بأكملها. قهر ظروف...) هكذا يبرر جابر فعلته وإنْ لم يُكملها. وكذلك يبرر كل مغتصبٍ ومتحرّش سوأته هذه الأيام. وبدلا عن انشغالنا بدحض حجتهم علينا بتوفير الجنس للشباب، إما بتقليل كلفة الزواج عن طريق إلغاء الشبكة والمسكن المستقل للزوج أو الاكتفاء بغرفة فسيحة. أو عن طريق فتح باب الحرية الجنسية مع توخي الحذر من وقوع الحمل.
قال راسم وهو يغتصب صفية أخت جابر: (عندما هبّ الجميع ثائرين في كل قطر في الأرض، هززتم أنتم رؤوسكم وتذرعتم بالإيمان والرّضا بما قسم لكم..هه هه..تدينكم زائف تبررون به ضعفكم..هه هه...) وهذا المقطع هو أهم مقطع في الرواية من وجهة نظري، فنظرة واحدة إلى موقف السلفيين الأصوليين في مصر من إضراب 6 أبريل تبرهن على اختياري. ذلك أنّ لفيفٌ كبير من دعاة الإسلام العرب يحثون الناس على الزهد، وعلى التقلل من متاع الحياة الدنيا من أجل آخرةٍ أبْقى. لذلك أغلب الملتزمين دينيًا فقراء، لأنهم لا يجدون ما يفعلونه، ولأنّ الانكفاء على الذات هو أسهل هروب، ولو أتيحت حياة أفضل ذات مستوًى ماديّ أعلى لهؤلاء لانتكس نصفهم عن الالتزام الدينيّ المفتعل.
النهاية مفتوحة. وهي مناسبة لرواية خيالية استشرافية لواقعنا كيوتوبيا.
أما بعدُ، فأنا لست من عشاق أحمد خالد توفيق وإنْ كنت من محبيه ومعجبيه، ومن المتابعين لأحدث ما يكتب وعلى الأخصّ مقالاته الأسبوعية بجريدة الدستور، ولكنني أمام عمل إبداعي فنيّ عالي المستوى وعلى درجةٍ كبيرة من الرقي والاحتراف. لذا، فلا مفرّ من الأخذ بتحذير دكتور أحمد خالد توفيق في روايته يوتوبيا من الذي يجري بمصر الآن خاصة مع تفاقم التطبيع مع إسرائيل، والفجوة الكبرى بين الطبقتيْن العليا والسفلى، وارتفاع معدّل التطرّف الثقافيّ والإجراميّ. فالعمل عمل رائع يستحق منا القراءة والتصفيق والتحية.
أحمد منتصر








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس