الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شكراً ... للمطر

ايفان عادل

2008 / 7 / 10
الادب والفن


جسدي باردٌ .. كأنّ ثلجاً قد سقط عليه ولم يغادره منذ زمن, يذوب الثلجُ لكنـّه لا يقلُّ سماكة ً بل كلما ذاب, إزداد سمكه أكثر, يذوب فقط ليغرسَ مياهه الباردة في مساماتي ...
لا وقتَ للبكاء
لا خيرَ في البكاء
لن أبكي بعد اليوم
بكيتُ كثيراً .. حتى صارت دموعي ثلجاً
كسا جسدي دون رحمة ..
أضلاعي تنكسرُ شيئاً فشيء, إنـّها لا تنكسرُ فحسب بل وتنفجرُ أيضاً لترسلَ شظاياها إلى كلِّ بقعةٍ داخل جسدي وعلى سطح جزيرته, إلى كلِّ عضوٍ وعضلةٍ وعظم ٍ ووتر ٍ وعصبٍ وشريان ٍ ووريدٍ ونسيج ٍ وخلية, وكلما سافرت شظية لتسكنَ واحدة ً من تلك الأجزاء والأشياء كان توأمها يمزّقُ قلبي ليعلمَ هذا الأخير أيّ جزءٍ يتألم وأيّ نوع ٍ من الآلام يحمل. نافورة ٌ عظيمة ٌ من الدماء تسقي كلَّ ما يوجد حول قلبي, يا له من منظر ٍ جميل, دمٌ يتطاير, لكنّه ليس بلونه المعتاد ذلك الأحمرُ المزعجُ الغامقُ الثقيلُ اللزجُ القاتم, بل صار يتطاير بألوان قوس قزح, بسبعة ألوان ٍ صار يتطاير ... وكلُّ لون ٍ ينطلقُ إلى طبقةٍ من السماء, ينطلقُ في الوقت ذاته إلى طبقةٍ في أسفل الأرض ليحملَ إليهما رسالة ً كـُتبت بلغة الحرف الأول ..!!
بدأ الحزنُ يغمرُ عظامي, إنـّها تفكرُ منذ الآن ماذا ستفعلُ في وحدتها بعد أن تغادرها خلايا جسدي, ماذا ستفعلُ وهي ترفضُ بشدّة فكرة تحوّلها إلى مجرد آثار. أعصابي حزينة ٌ أيضاً, حزينة ٌ جداً, لكنـّها لا تثورُ كالمعتاد لأنّ حكومة الموت قد بدأت تغتالُ سلطتها شيئاً فشيء في زمن ٍ صغير ٍ جداً حتى لا يمكنني أن أسمّيه ( لحظة ) .. إنـّه عصيانٌ بلا عصيان وتمرّدٌ بلا تمرّد يملأ كلَّ الأجزاء التي كانت تحت سيطرة أعصابي بل صار يملأ أعصابي نفسها, الآن لا أحد يسمعُ ولا أحد يستجيب, صار الوضع في إنساني لا يختلف كثيراً عن الوضع في أوطاني ..
دماغي صار قطعة خردة, يهذي ويهلوس, يتذكـّرُ أمجاد الماضي وخيـبات الأوقات السابقة, حزينٌ هو لكنـّه لا يبكي وحين يفرحُ ويبتهجُ لا يفكـّرُ في الضحك لأنـّه ما عاد يفرّقُ بين الحزن والسعادة أو بين الضحك والبكاء, يضحكُ تارة ً ولا يعرفُ لماذا ويبكي تارة ً أخرى ولا يعرفُ لماذا أيضاً ..
نداءٌ مفاده أنّ على جميع الأفكار ِ والرغباتِ والصفاتِ والنوايا مغادرة ُ هذا الجسد الآيل للسقوط بعد قليل, الكلّ قد حظـّر نفسَه وحقيبتـُه على كتفه يستعدّ ُ للسفر لكنّ إلى أين ... لا أحد يعرف, قد تطيرُ في الهواء وتمتزجُ مع أشباهٍ لها غادرت توّاً جسداً آخر أو قد تلتصقُ بالجدران أو الأثاث أو تعلو شيئاً فشيئاً في السماء حتى تنفجرُ في مكان ٍ ما ....... ؟؟
وهذه الأخرى, روحي القابعة داخل جسدي البارد, تفكُّ الآن لاصقاً جعلها لسنواتٍ طوال تلازمُ هذا الوعاء الفاني لتعودَ أدراجها إلى حيث تنتمي ...
فإذا وردٌ فذاك نعيمْ
وإذا شوكٌ فذاك جحيمْ
هذا ما تقولُ السطور
عن فم السيّد العظيم ..؟؟!!
أو تختارُ نوعاً آخر من الانتماءْ
فتجولُ على البرِّ
أو تغوصُ في البحرِ
أو تطيرُ إلى أرض ٍ .. بلا سماءْ
وبلا ... أسماءْ
سآخذ قراري قبل أنْ يحفظـَ كلُّ جزءٍ داخلي دوره في هذه المسرحية اللعينة وقبل أنْ يلعبَ كلٌّ على هواه سأكتبُ في وصيتي أنْ يُحرقَ جسدي رأفة ً بالعظام فهي من كانت لسنين ٍ تـُدعمُني وتوقـّفـُني وتـُحرّكـُني وتـُمشـّّيني, سأدفيءُ جسدي للحظاتٍ قبل أنْ يغادرَ هذا العالم البارد وسأذيبُ الثلجَ المتراكم عليه لسنين .. أما أفكاري فلتذهب حيث تشاء مع أنـّي قد وجدّتُ للبعض منها موطناً على أوراق دفاتري وللبعض الآخر مكاناً في مسامع من عاش حولي . أما روحي فكما جاءت دون إذن ٍ مني فلتغادر إلى حيث تشاء دون إذن ٍ مني أيضاً فإما أنْ تسافرَ إلى الأبد أينما تريد أو تستقرَ إلى الأبد حيثما تريد ..
هذا التصوّرُ البسيطـُ والمعقـّدُ في ذات الوقت ( عن حقيقتنا ) والذي يحملُ في بساطته وصعوبته الكثيرَ من الأسرار والألغاز والأسئلة هو ما ملأوا به دماغنا ونحنُ بعد صغار .. فنكبرُ ويكبرُ معنا هذا الإتـّحاد الثلاثي الغريب.
أخوة ٌ ثلاث يسكنون نقطة ً واحدة وعندما تحينُ الساعة يُدفنُ المُضيفُ ويغادرُ الضيفُ أمّا الخادمُ فلا أحد يعرفُ له طريقاً مع أنـّه هو من كان ينسّقُ بين الضيف والمُضيف لسنواتٍ عديدة ...
وداعاً أيها الضيف
وداعاً أيها المُضيف
وإلى لقاءٍ قريب أيها الخادمُ المسكين
وداعاً .. يا أنا الفانية
ومرحباً بكِ .. يا أنا الخالدة
إنـّه لغزٌ ثلاثيُّ الأبعاد يتلاعبُ به البعدُ الرابع حتى يقذفه كالكرة عالياً فتنفصلُ الأبعادُ الثلاثة عن بعضها البعض وتبدأ رحلة َ البحث عن عالم ٍ جديد, ربما تبحثُ عن بعدٍ آخر ليتلاعبَ بها لكنّ ليس وهي مجتمعة ً في نقطةٍ واحدة بل منفصلة ً عن بعضها البعض .. ربما تبحثُ عن البعد الخامس ..!!
إنـّها لوحة ٌ فسيفسائية ٌ ٌ صادقة ٌ مع نفسها بكلِّ بساطة وكاذبة ٌ مع الجميع بجهدٍ وعناء ...
تبتسمُ للجمهور ِ صباحاً
وتعلـّمهم نعمة َ الفضائلْ
وأسرارَ الفنون
تزرعُ على وجوههم
بذورَ الأمل ِ والتفاؤلْ
وتحصدُ منها .. ثمارَ الجنون
تشيرُ بإصبعها إلى النصفِ المجهول من وجه الزمن, إلى المستقبل, وفي الليل عندما تبقى وحدها مع أصوات وقع أحذية الحراس على البلاط تبدأ بالبكاء وتمارسُ الحبَّ بكلِّ وحشيةٍ مع النصف المعروف من وجه الزمن, مع الماضي, تشربُ حتى الثمالة ثم تحطـِّمُ القناني والكؤوس وما أنْ تهدأ قليلا ً تعودُ إلى القطع المتناثرة هنا وهناك تسألها العفوَ وتستجدي منها ولو قطرة ً واحدة .. وعندما يقتربُ الفجرُ من الطلوع تنظـّفُ المكانَ وتـُخفي أجزاءَ الزجاج خلفها لتمارسَ حيلتها اليومية مع مجموعةٍ جديدةٍ من السيّاح والزوّار والمثقفين وأشباه المثقفين والسادة الكرام وحاشيتهم والسادة أبناء الحرام وأتباعهم.
ماذا لو زار واحدٌ من أولئك المساكين هذه اللوحة الفسيفسائية ليلا ً ..؟
إما أنْ يغادرَ المكانَ فيحكي لأصحابه كلَّ ما رأى ليُحجرَ عليه بعد ذلك في مشفىً خاص ٍ جداً للأمراض العقلية لأنّ ( هذا المسكين قد فقد عقلـَه من شدّة تأثــّره بالفن ) كما سيُكتبُ في تقريره الطبّي أو سينحدرُ إلى مستوى اللوحة ( الراقي ) ويصيرُ مثلها حتى طلوع الفجر ..
يا لها من روايةٍ سخيفةٍ تلك التي حكت لأول مرّة قصة الحبّ الفاشلة بين الأرض والسماء إنـّها مزحة ٌ سمجة ٌ وثقيلة ٌ جداً حتى تكاد تـُصيبُ من يضحكُ بسببها شللا ً في الفكّ وحين يموتُ يقولون عنه ( قد مات هذا الأحمق من شدّة الضحكِ بلا سببْ, إذن فهل كان قليلُ أدبْ ) .. طبعاً هذا الكلام لا يجوزُ للكلّ, إلا ّ للمصنـّفين كوقودٍ من البشر ...
إنـّي أترنـّحُ كالبندول ( جنوباً ويسارا ), مع إنـّني لم أشرب قطرة ً واحدة من ماء الخيال, أترنـّحُ لأنـّني وأخيراً سَكِرتُ بواقعي دون أنْ أدخلَ خيالا ً يُبعدني عنه, ولكنّ شكراً للجدران ِ وأعمدةِ الكهرباء وأكتافِ الحسناوات وأذرع ِ الأصدقاء وبعض الأجزاء من أجسادِ السيارات, قليلا ً من هنا وقليلا ً من هناك وجدّتُ نفسي واقفاً أمام عتبةِ باب داري, رفعتُ يدي لأطرقَ البابَ مع أنـّه ليس في البيت أحدٌ والمفتاح في جيبي لكنـّها عادة ٌ قديمة ٌ نمارسها كغيرها من العادات دون أن نسألَ أنفسَنا ( لمــاذا ..؟ ) ...
العجيبُ في الأمر أنـّه قبل أنْ تصفعَ أصابعي جسدَ الباب الباردِ, جاء صوتٌ عظيمٌ من السماء يُصاحبه نورٌ عظيمٌ جداً, ببساطة ودون أيّة تصوّراتٍ خارقة وتخيّلاتٍ لا طبيعية, كان ما رأيتُ وما سمعتُ نتيجة َ نقاش ٍ حادٍ بين البرق ِ والرعد يؤولُ دائما ً إلى المصير نفسه منذ ملايين السنين حتى يتدخـّل المطرُ فيزرع الهدوءَ والطمأنينة َ في نفوس الجميع.
آهٍ .. ما أجملَ المطرْ
سوف لن أدخل البيتَ هذه الليلة بل سأبقى في الخارج جالساً على هذا الدرج الجميل أمام باب داري, سأبقى ساهراً حتى الصباح أتأملُ المطرَ كيف يأتي إلينا قطرة ً فقطرة, كيف يجمعُ أجزاءه ليسيرَ في سواقي شوارعنا فيمضي هو الآخر إلى حيث يشاء ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بشار مراد يكسر التابوهات بالغناء • فرانس 24 / FRANCE 24


.. عوام في بحر الكلام-الشاعر جمال بخيت يحكي موقف للملك فاروق مع




.. عوام في بحر الكلام - د. أحمد رامي حفيد الشاعر أحمد راي يتحدث


.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت يوضح محطة أم كلثوم وأح




.. عوام في بحر الكلام - إلهام أحمد رامي: أم كلثوم غنت في فرح با