الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البلاطة السوداء

طارق قديس

2008 / 7 / 13
الادب والفن


بكل حماسة ، وقف أمام شقة المدير ، حمل باقة زهورٍ متعددة الألوان ، ورسم ابتسامة عريضة على شفتيه ، وتمنى في قرارة نفسه أن يكون أول من يهنئ المدير على منصبه الجديد من الموظفين.

الغريب أنه ، ورغم أنها المرة الأولى التي يزور فيها المدير في شقته ، أحس بأنه قد زار هذا المكان من قبل ، وذلك فور أن وقعت عيناه على تلك البلاطة السوداء المكسرة في آخر الدرج ، فعندها .. بدأ يبحث في ذاكرته ، بدأ يتساءل ، وبدأ يقول لنفسه : "الشارع ليس غريباً عليَّ ، وكذلك مدخل العمارة ، والبلاط الرخامي المنقوش أمام عتبات كل الشقق الثماني فيها ، والمصعد الكهربائي المعطل ، والأهم من كل ذلك هو هذه البلاطة بحد ذاتها".

إن هذا الشعور أخذ بالازدياد شيئاً فشيئاً عندما فتح له المدير الباب ، واستقبله بالتأهيل والترحيب ، عندما تخطى عتبة الباب ، ودخل برجله اليمنى، وجلس في الصالون، عندما شرع بشرب القهوة ، وأكل صحن التبولة ، وهو يتمعن في زوايا الغرفة بطرف عينه ، والردهة المؤدية إلى غرفة المعيشة ، حتى تيقن مما يشعر به ، وقال لنفسه ثانيةً : " إنها هي ، الشقة نفسها ! ".

إن الحسرة التي اشتعلت في صدره ، وأخذت هي الأخرى بالازدياد ، جعلته يرجع لا شعورياً إلى خمس سنواتٍ مضت ، حينما زار هو وخطيبته - آنذاك - هذه العمارة ، بحثاً عن عش للزوجية ، فأخذتهما الشقة ، باتساع مساحتها ، وتناسق غرفها ، وتعدد خدماتها ، وسعرها المقبول على حدٍّ سواء ، إلا أن شيئاً واحداً قد أفشل خطة شراء الشقة ، وهو تلك البلاطة اللعينة!

الخطيبة اشترطت على صاحب الشقة أن يغير البلاطة أولاً حتى تتم عملية الشراء . صاحب الشقة رفض تغيير البلاطة بحجة أن هذا من اختصاص صاحب العمارة . صاحب العمارة بدوره رفض تغييرها بحجة أن تغيير البلاطة يستدعي تغيير بلاط الدرج بأكمله ، وهو أمر مكلف لا يمكن أن يتحمله وحده.

في النهاية ، لم يتفق الجميع ، وفشل مشروع شراء الشقة ، والأسوأ من ذلك أن مشروع الزواج قد فشل هو الآخر.

حاول قدر المستطاع ، وهو جالس في المقعد ، أن يكتم حسرته عن المدير . حاول جاهداً أن يمحو ما حصل من ذاكرته ، ألا يتذكر سبب عدم شراء الشقة ، ألا يتذكر كيف أنَّبَ خطيبته على عنجهيتها المفرطة ، وتفكيرها القاصر. حاول ألا يتذكر أن سعرها قد تضاعف مرتين منذ ذلك الحين ، وأنه ما عاد بإمكانه – هو الموظف - أن يشتري شقة مثلها أو حتى نصفها في ظل الارتفاع المستمر لأسعار الشقق . حاول ألا يتذكر أنه قد أصبح على أعتاب الأربعين ، وهو لا يزال دون زواج . حاول ألا يتذكر أنه لم يستطع بعد خساراته المتوالية أن يعود حتى بخفي حُنين إلى حياته الطبيعية ، فلا شقة ، ولا زوجة ، ولا أولاد ، ولا مال ، ولا أي شيءٍ آخر يذكر.

وأمام الباب لحظة الخروج ، ألقى نظرة بعيدة إلى داخل الشقة ، ثم ودع المدير ، لم يتركه ينزل معه إلى مدخل العمارة ، ودعه ثانيةً حتى تأكد من إغلاقه للباب وراءه، أما هو فوقف يتأمل المصعد المعطل ، الباب الخشبي الداكن ، المصابيح الكهربائية ، ولم ينسَ تلك البلاطة اللعينة.

استمر في التأمل ، في النظر نحو الأعلى ، إلى الدرج المؤدي إلى السطح ، فيما هو يَهِمًّ بالنزول ، والذكريات تتلاطم في رأسه .

استمر في النظر ، ونسي نفسه ، ولم يشعر بجسده إلا وهو يترنح في الهواء، يفقد توازنه ، وقدمه تنزلق في ثانية واحدة إلى الأمام ، ليقسط على ظهره فوق الدرج ، ويستقر في النهاية على مشارف الطابق السفلي ، وقد ارتطم رأسه بزاوية الدرج ، وسال منه القليل من الدم .

لقد شعر بآلامٍ متعددة تتنقل في جسمه كله ، دون أن يفقد الوعي ، وأدرك أن تلك البلاطة اللعينة نفسها كانت وراء سقوطه المدوي ، وأن لعنتها مازالت تلاحقه رغم مرور الأيام ، وقد تمنى لوهلة من الزمن أن تعود به عقارب الساعة إلى ذلك اليوم المشؤوم ، وقبل دخوله إلى العمارة ، ليقول لخطيبته أنه لن يشتري شقةً فيها ، حتى لو فرشوا له البحر ذهباً.

عندها ابتسم ابتسامته الساخرة المعتادة وسط آلامه ، وهو يتذكر خطيبته الجميلة المتكبرة ، ليرحل بعدها إلى عالم النسيان، ويفقد الوعي بما حوله من أشياء ، وذلك حتى اشعارٍ آخر !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس


.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه




.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة


.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى




.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية