الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


14 تموز بين الموقف العاطفي و الموقف الطبقي

عدنان عاكف

2008 / 7 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


لم يكن تحرك بعض القطعات العسكرية صبيحة 14 تموز 1958 الأول من نوعه في العراق. فقد سبق للجيش ان استلم السلطة في عام 1936 ( انقلاب بكر صدقي ) وفي عام 1941 ( انقلاب العقداء الأربعة ). وما بين هذين الانقلابين قام الجيش أو كان وراء سبع تغييرات حكومة أو انقلابات عسكرية. غير ان ما ميز تحرك عام 1958 عن الانقلابات والتحركات العسكرية السابقة هو الدعم الجماهيري المنقطع النظير الذي قوبل يه منذ الدقائق الأولى التي أعلن فيها الراديو عن سقوط النظام الملكي، والدعم السياسي المطلق والفوري من قبل جميع القوى السياسية المعارضة للنظام. ومع ان الجيش هو الذي أخذت زمام المبادرة في عملية التغيير والاستيلاء على الواقع الإستراتيجية المهمة، إلا ان النزول الفوري وغير المتوقع لمئات الآلاف من الناس في جميع مدن العراق قد أكسب تلك الحركة طابع الثورة الشعبية حيث قامت الجماهير بتوفير الدعم والحماية للقطعات العسكرية، وليس العكس، وتحول الانقلاب العسكري بفضلهم الى ثورة الشعب والجيش.
السمة الثانية التي ميزت أحداث 14 تموز هي السرعة المذهلة التي استطاعت بها الثورة ان ترد الجميل للجماهير التي احتضنتها وحمتها، وذلك من خلال إصدار مجموعة من القوانين والمراسيم التي شملت جوانب مهمة من حياة الناس في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتركت أثرها العميق على مستقبل فئات وطبقات اجتماعية بأسرها. وخلافا لما كان يرافق الثورات الأخرى في العالم حيث يكون هناك فارق زمني كبير بين الجوانب السياسية والانجازات الاجتماعية فان ثورة تموز استطاعت ان تجمع بين الجوانب السياسية والاجتماعية في آن واحد ( عقيل الناصري : الحوار المتمدن ، العدد 1044؛ التاريخ 11/12/2004). وبعيدا عن المصطلحات العلمية والفلسفية لعلم الاقتصاد وعلم الساسة والاجتماع، والتي يتم اللجوء اليها عادة للتمييز بين الثورة والانقلاب، استطاع الجواهري ان عبر عن العلاقة بين الثورة وفقراء العراق وكادحيه بالفقرة التالية، التي خصها للحديث عن جانب من حيا عبد الكريم قاسم: " وقد أصبح هذا الفقير ( قاسم ) المعدم ذو الثياب المهلهلة حاكماً مطلقاً… ليزحف زحف الذين كفروا على الأكواخ (والصرائف) وعلى كل ما فيها من التعساء وليحيلها شققاً وعمارات وبيوتاً ترى لأول مرة النور والكهرباء والحدائق والشوارع منتقماً بذلك من فقره وماضيه ثائراً على واقع البؤساء." وبكلمة أخرى ان المنجزات التي قدمتها الثورة في أشهرها الأولى لم تكن مجرد شعارات سياسية ولافتات معلقة على مقرات الأحزاب والجمعيات المهنية والنقابية، بل هي أشياء ملموسة تمثلت بإزالة جزء كبير من الأحياء العشوائية والأكواخ والصرائف المحيطة بكبريات المدن والتي كانت تأوي مئات الآلاف من فقراء الريف.
هذان الجانبان المهمان ( ردة فعل الجماهير السريعة تجاه ما حدث في 14 تموز ، وردة فعل الثورة السريع تجاه أبنائها، وخاصة الفقراء منهم ) كانا في مقدمة العوامل التي منحت التحرك العسكري الذي أطاح بالنظام الملكي طابع الثورة الشعبية. هذه الحقيقة الموضوعية لا تنسجم مع فكرة " الانقلاب العسكري "، لأن فكرة الانقلاب تقوم أساسا على فكرة أخرى وهي اختزال الحدث في التحرك العسكري وعزله تماما في الزمان والمكان. في الزمان يتم فصل الانقلاب عن تاريخ العراق الحديث ، عزله عن الماضي من حيث ارتباطه بالمسيرة النضالية للشعب من ناحية، ومن حيث انه كان نتيجة حتمية لفشل النظام الملكي في تحقيق الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المطلوبة والتي تنسجم مع التطورات في البنية الاجتماعية والطبقية. وعزله في المكان من خلال حصره في الثكنات العسكرية والتركيز على تحرك بعض القطعات العسكرية ومحاولة حصر دور الجماهير بأعمال العنف التي طالت بعض أفراد العائلة المالكة.وما يثير الانتباه والدهشة حقا ان عزل الانقلاب عن الماضي يقترن دائما بربطه بالمستقبل، بما حدث فيما بعد، باعتباره بداية لسلسلة من الانقلابات التي وقعت فيما بعد، وبكونه بداية لموجات متتالية من العنف طبعت الحياة السياسية في العراق في العقود الخمسة الماضية.
يدرك أنصار الانقلاب ان لا سبيل لإثبات فكرة الانقلاب إلا اذا جردنا الثورة من منجزاتها الاجتماعية، لذلك لا بد من التغاضي عنها بقدر ما تسمح به الظروف. لكن بعض الأخوة ، الأكثر واقعية ، يدركون ان إخفاء تلك المنجزات عملية شبه مستحيلة لكونها مست حياة الملايين فحفرت في ذاكرتهم.. لذلك يجد هؤلاء أن لا سبيل إلا بالاعتراف بان الثورة وبالرغم من إخفاقها في تحقيق جميع أهدافها، ما تزال تحظى بتأييد شعبي واسع وخاصة في الأوساط الاجتماعية الفقيرة ولدى فئات واسعة من المثقفين. لذا تجدهم يسعون الى تصوير ذلك التأييد على انه ناتج عن سمات الفرد العراقي الذي يسعى الى تقديس بعض المواقف والأحداث، ومن بينها 14 تموز. لذلك تجد ان العض يؤكد على ان إعادة تقييم 14 تموز " يتطلب جهدا لتدريب العقل العراقي على القدرة للفصل بين التقييم والتسفيه .."، وان " الفرد العراقي الذي قمعته كل الأحداث التي أفرزتها 14 تموز و ما بعدها، صار يؤسطر 14 تموز و رموزه. فهو قد حوّل هذا الحدث و رموزه إلى ما يشبه الإكسير أو المخدر الذي يساعده على تجاوز محن حياته اليومية..".. ويرى البعض ان تمجيد 14 تموز ناتج عن مواقف عاطفية او مشاعر " صوفية " تجاه زعيم الثورة، لبساطته ولما كان يتمتع به من سمات إنسانية وأخلاقية . يقول الأستاذ نجيب المدفعي : " لقد كان لشخصية عبد الكريم قاسم كإنسان و عسكري شهد لها أعداؤها قبل عشاقها، دور في أسطرة هذه الشخصية البسيطة و التي لا تختلف في مفردات حياتها عن غالبية العراقيين الطيبين. و الذي لم يغير أسلوب حياته البسيط عندما تصدى للسلطة. لقد سحرت هذه الشخصية الجماهير ـ و الفقراء منهم خاصة ـ فصنعوا منها رمزا لا يجوز النيل منه"..( الحوار المتمدن - العدد: 1144 - 2005 / 3 / 22 (
يقول الأستاذ ثائر كريم في نهاية مقالته التي قدم فيها ما جرى في 14 تموز على انه كان مجرد انقلاب عسكري" انبثق بطريقة مؤامراتية فيها الكثير من مظاهر البشاعة والتقزز " : " اعرف ان هناك كثيرين سيهبون دفاعا عن انقلاب 14 تموز. فقد ربط البعض تاريخه السياسي ربطا أسطوريا به. بحيث لم يعد من الممكن (أو ؟) التراجع عنه. فعاقبة التراجع تفريغ المرء لنشاطه السياسي السابق من معناه. ونقده إدانة رؤية سياسية كاملة بالفشل...
ويهب قسم آخر للدفاع عن الانقلاب انطلاقا من دفاع صوفي واخلاقي عن احد زعماءه، عبد الكريم قاسم. أي انطلاقا من صفات عبد الكريم قاسم الشخصية كانسان نزيه وشعبي وبسيط. (الحوار المتمدن- العدد: 998 - 2004 / 10 / 2 ).
الاستنتاج الذي توصل اليه كل من المدفعي وثائر كريم وارد بالتأكيد. ولكن هذا ليس سوى نصف الحقيقة، الذي سعى الكاتبان ان يخفيا وراءه النصف الآخر ، وهو النصف الأهم. فبالإضافة الى هؤلاء الصوفيين ( ولا أستبعد ان أكون واحد منهم ) هناك الملايين من العراقيين الذين كانت الثورة بالنسبة لهم، وكما أشرنا الى ذلك في البداية، تعني لقمة خبز نظيفة ومياه نقية وكهرباء ومدرسة ومستوصف، والتحرر من سوط الإقطاعي والسركال، وقطعة أرض صغيرة يزرعونها ، وعمل دائم، وأمل بحياة أفضل لأولادهم ...
لا بد أيضا من الإشارة الى ان طبيعة الثورة وجوهرها لا يتحدد بنوعية زعمائها، مع ان الشخصيات السياسية يمكن أن تؤثر سلبا أو إيجابا على مسار الثورة وتطورها أو ارتدادها، بل تأتي من أهدافها ومبادئها. إضافة الى ان الجماهير التي احتضنت الثورة في يومها الأول لم تكن قد عرفت شيئا عن رجالها وقادتها. ولكن حالة الفقر المدقع والحرمان وسنوات الظلم التي عانى منها فقراء العراق هي التي دفعتهم الى تأييد الحركة العسكرية، لأنهم أدركوا وبحسهم الطبقي ان تلك الحركة التي توجهت الى إسقاط النظام الذي أذاقهم المر لا بد وان تكون جاءت لتلبية مطامحهم وتحقيق آمالهم. لا أعتقد ان عملية اختزال التأييد الجماهيري الذي ما تزال ثورة تموز تحظى به من قبل أوساط واسعة من العراقيين الى مجرد مواقف صوفية وعاطفية تمت الى التحليل العلمي والتقييم الموضوعي بأية صلة، وليست هي الطريقة التي يمكن أن تساعد على تخطي الموانع الفكرية والعقائدية والتخلص من الرواسب والتراكمات العقائدية. ليس هناك من وسيلة للتوصل الى تقييم جديد للتاريخ إلا بالتحرر من التقييم القديم. ولا سبيل للخلاص من الأفكار القديمة إلا بالتحليل الموضوعي للمعطيات الجديدة التي دعت الى إعادة تقييم الحدث. وما ورد في مقالتي الزميلين المدفعي وثائر يعيد كل البعد عن التحليل الموضوعي، لأنهما لم يقدما أصلا أية معطيات جديدة، باستثناء بعض النصائح الجميلة الناعمة للتحلي بالعقلانية والابتعاد عن الأفكار الجاهزة.
من بين الذين هبوا للدفاع عن ( الانقلاب ) هو د. عقيل الناصري. حيث عقب على مقالة الأستاذ ثائر في مقالة جديدة ( الحوار المتمدن ) . كنت أتمنى من كل قلبي لو ان الأستاذ ثائر قد حذا حذو د. الناصري ودعم استنتاجاته بالمعطيات والأرقام. لم يكتف الناصري في تقديم المعطيات التي حاول من خلالها ان يثبت بان ما حصل في 14 تموز كان ثورة أصيلة، وذلك من خلال ما حققته في شتى المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بل حاول أيضا ان يكشف بان التطور الذي شهده العراق خلال الحكم الملكي، الذي تحدث عنه الكاتب ثائر كريم، لم يكن في حقيقة الأمر سوى تطور ظاهري وسطحي لم يمس جوهر المجتمع في العمق. وبين ان البطء الشديد في تطور العلاقات الاجتماعية والاقتصادية خلال ذلك العهد كان أحد الأسباب الرئيسية التي دعت الجيش والشعب الى الإسراع في عملية التغيير. هل كان د. الناصري محايدا وموضوعيا في ما قدمه ؟ محايد ؟ كلا، فقد كان، وكما هو معروف منحازا للثورة وقيادتها. هل كان موضوعيا ؟ نعم كان موضوعيا والى درجة كبيرة. قد يكون انحيازه للثورة أفقده الموضوعية في بعض الحالات لكنه، وكما يقول حنا بطاطو، لم يعمد الى تنضيد الحقائق بما يناسب عواطفه، ليس بصورة واعية على أقل تعليل...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتفاقية الدفاع المشترك.. واشنطن تشترط على السعودية التطبيع م


.. تصعيد كبير بين حزب الله وإسرائيل بعد قصف متبادل | #غرفة_الأخ




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - الحكومة الإسرائيلية تغلق مكتب الجز


.. وقفة داعمة لغزة في محافظة بنزرت التونسية




.. مسيرات في شوارع مونتريال تؤيد داعمي غزة في أمريكا