الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دروس وعِبر نصف القرن : خُذ الحكمةَ من أفواه المجانين

سلام صادق

2008 / 7 / 14
الادب والفن


تنزوي في مكان ما قَصيٍ في تلافيف ذاكرتي ، مدينة جنوبية وادعة ، مستلقية بطمأنينة على كتف الغراف المزدان بخضرة البساتين وظلال النخيل والتي لا اعرف بالضبط لماذا كتب عنها شاعرنا سعدي يوسف ( ابراج قلعة سكر ) علما بان هذه المدينة ليست بذات ابراج ولا اثر فيها لقلاع ما او مخلفاتِ حروب ، إلا اذا كان في الأمر رؤيا بصرية او دلالية استخدمها شاعر حاذق يتقن صنعته في استدعاء التاريخي وحقنه بشحنات شعرية معاصرة ، لئلا يندثر الصوت او يدفن في هباء التاريخ ... المهم انها مدينة قلعة سكر التي قضيتُ فيها قسطا من طفولتي وصباي ، وقضى فيها حياته بكاملها معتوه يجوب طرقاتها الضيقة ، المفروشة برماد التنانير ، اسمه حسين مريان ، وكان لحسين مريان هذا شكل غريب يجلب انتباه وفضول بعض الاطفال ، ويبذر الرعب في قلوب بعضهم الآخر حيث يتولى الاشد مشاكسة فيهم رشقه بالحجارة والانزواء بعيدا عن عيون الكبار وتعنيفهم ، سيما وانه لايستطيع اللحاق بهم لضعفه ولتهالك جسده وهزاله ، كان حسين مريان هذا يشبه تماما مااعتادت هوليوود عرضه على انه مخلوقات نادرة قادمة من كواكب اخرى بعيدة ومجهولة في افلام خيالها العلمي ، رأس كبير غير متناسق وبدون شعر إطلاقا وفم بلا اسنان يتهدل خارجه لسان يرشح من تحته اللعاب دوماً واذنان كبيرتان بشكل مثير كملعقتين كبيرتين ، وعينان صغيرتان جدا غائرتان عميقا الى الداخل في محجريهما الواسعين ، وكان كل هذا مرتكزا على رقبةٍ معوّجة مائلة لاحد الجانبين وقفص صدري مضغوط من الجانبين وبارز الى الامام واطراف تبدو وكانها مصنوعة من قصب نحيف او خيزران
وكان بعض الاطفال يوغلون في ايذائه لدرجة انهم يدمونه دون ان يأبهوا لنتائج افعالهم هذه وكانهم مقبلون على ممارسة تسلية من طراز خاص ، ولذا فقد كان فظا قاسيا معهم إن ظفر باحدهم واتيح له انزال العقوبة به وممارسة حقه في الاقتصاص منه . وعلى العكس من هذا تماما فقد كان طيعا وسلساً مع الكبار لانه يجد الحماية والامان من لدنهم خاصة حينما ينزوي بقربهم مفترشاّ ارضية المقهى الذي يلتقون فيه ، لاتقاء اذى الاطفال وحيث يلبي له بعض هؤلاء الكبار بعضا من احتاجاته من الطعام وقطع النقود الصغيرة التي يسلمها بدوره لامه الفقيرة المعدمة التي تتولى اعالته

وكان مصور المدينة المعروف آنذاك ، الشيوعي جارنا وصديق ابي ورفيقه عبد الله الحسون قد وضع بورتريتا كبيرا في واجهة استوديو التصوير العائد له لهذا المخلوق الغريب حسين مريان ( ربما يعني هذا نوع من الدعاية بمفهوم العولمة الحالي ، لكن هذا لم يكن ليدر في خُلد المصور عبد الله آنذاك بالتاكيد ) وترك المتبقي من الواجهة لصور البعض من المقربين اليه من الاصدقاء والرفاق ، وكان لي في احدى زوايا الواجهة الزجاجية للاستوديو وكما اذكر بورتريتا صغيرا يتناسب مع عمري آنذاك وانا ارتدي ملابس المقاومة الشعبية وعلى كتفي نجمة واحدة واشرطةعديدة تتدلى وخيوط مذهبّة وبعض الميداليات المثبته بدبابيس على الصدر ، والتي كانت مثارا لهزء واستخفاف ضابط التجنيد الغبي فيما بعد ، حين تم (سوقي) لاداء الخدمة العسكرية بعد انهاء دراستي ، حيث كانت نفس الصورة مثبته في دفتر نفوسي لتعداد عام 1957 ومازلت احتفظ بنسخة منها للان كانت في حوزة عائلتي بعد مغادرتي العراق
يعمد عبد الله المصور يوميا الى نقل كاميرته الشمسية ذات الارجل الثلاثة والخرطوم القماشي الاسود ( الذي يغرز فيه راسه بين الفينة والاخرى وكلما جلس امامه زبون جديد ) من الاستوديو الى حيث موضع قريب من بناية محكمة بداءة قلعة سكر ، التي لاتبعد كثيرا عن الاستوديو ، حيث يمارس عمله اليومي في تصوير المراجعين من الذين لهم شؤون يقضونها في المحكمة ، وكان حسين مريان يرافقه كظله ليكون في حمايته وبمأمن من اعتداءات الاطفال ، مقتعدا قطعة اسمنتية ثقيلة مهملة مخلوعة من الرصيف المتهدم ومتدفئاً ( بالمشراكة) اي باشعة الشمس الساقطة على جسده النحيل ، من لسعات برد الشتاء العراقي
المعروف عن المصور عبد الله انه كان انسانا عطوفا ومرحا ومحبا للنكتة ، وكان مثقفا من الطراز الاول ، مولعا بالقراءة ، وقد اختفى فجأة في شباط الاسود عام63 ولا ادري ما الذي حل به ، غير انني ادري تماما بان واجهة الاستوديو الزجاجية التي كانت تبهر الناظرين بنظافتها على الدوام بقيت مهملة لفترة طويلة بعد هذا التاريخ حتى علاها الغبار وتناهبتها عوادي الطقس العراقي القاسي ، وكنت القي عليها نظرة مشوبة بالحزن والفقدان كلما مررت بقربها للتاكد من بقاء صورتي معلقة هناك وانا في طريقي الى مدرسة المنهل الابتدائية كل صباح ، حينها كان يدهمني شعور غريب باعثه رغبة طفولية جامحة مفعمة بأمل كبير يستبد بي في ان يعود عبد الله ذات يوم الى الاستوديو وان يعود ابي ذات يوم الى البيت حيث كان سجينا ، لكن الرياح كانت تجري دوما باتجاه معاكس لامانينا الكبيرة والصغيرة على حد سواء وحتى هذه اللحظة
وكان ان يجتمع كل مساء بعضا من شيوعيي ذلك الزمن الجميل ( زمن الهيمان بالقناعات ، والتوحد عشقا بالمباديء ) في هذا الاستوديو الصغير بدلا من الذهاب الى المقهى الملاصق له ، لتناول الشاي والحديث في الامور العامة ويكون حسين مريان كالعادة جالسا على الدكة المرتفعة نسبيا التي تفضي الى عتبة الاستوديو فيما رقبته الطويلة ممتدة بفضول الى الداخل ، دون ان يفهم شيئا مما يجري ومما يقال ، الى ان يحين دوره في المشاركة باشارة يفهمها من عبد الله المصور ، حيث يبادره عبد الله وكالعادة بسؤاله المعروف الذي يطرحه عليه دوما ، وهو يهّم بادخال يده الى جيبه اشارة الى انه سينال مكافأته فيما لو اجاب وباعلى صوته حسب الاتفاق
يصرخ به عبد الله بصوت مرتفع لحثه على الاجابة بصوت مرتفع مماثل : من هو رئيس الجمهورية ؟؟
فيفز حسين مريان كالملدوغ في نومه ويصرخ بصوت جهوري لا احد يصدق بانه يخرج من هذا الجسد النحيف المتهالك : العُراق ( بضمة ثقيلة ممطوطة وطويلة جدا على حرف العين ) ويكرر الكلمة حسب عدد الطلبات وحسب عدد الاسئلة المطروحة عليه وبنفس الحماسة والاندفاع واقصى طاقة الصوت المتحشرج
عندها ينال قطعته النقدية الصغيرة الموعودة ، فيما يترك الجميع غارقين في الضحك ، بينما يكون هو قد اطلق ساقيه المنفرجتين للريح متلفتاً ، مبتعدا عن المكان وملاحقات الاطفال الذين يترصدونه دوما
كان حسين مريان مُصراً حتى لحظة مرضه وموته على ان رئيس جمهورية العراق هو العراق
حاول عبد الله ورفاقه ثنيه عن ذلك ، باجباره احيانا ورشوته احيانا اخرى لتغيير سجيته وعفويته المتأصلتين فيه ، وتلقينه بدلا عن ذلك بان الزعيم عبد الكريم هو رئيس الجمهورية فكان يعدهم بانه سيقول ذلك في المرة القادمة ، اي انه سيقول اسم الزعيم بدلا من كلمة العراق ، غير انه لايلبث ان يخلف وعده ويحنث بقسمه ، فبمجرد تلقفه للسؤال ينتفض من جديد ويروح يصرخ بكلمة العُراق باعلى صوته فتذهب جهودهم باقناعه ادراج الرياح ، كان حسين مريان مُصرّا على ان رئيس جمهورية العراق هو العُراق ، كان لايمكن تصور شخصيته الغريبة تلك دون هذه اللازمة ، ودون هذا الانتماء الذي تبلور لديه بشكل عفوي نتيجة الاعتياد اليومي والتكرار والوعي في جانبه التلقائي فقط
لكن الى اي مدى تصح نبوءات المجانين ؟؟
ومن سيأبه لمغزى الحكمة المُستبطنة الخارجة من افواههم ؟
وهل سيلبث العراق عراقا في عقول غيرهم من الأسوياء جدا !
! لا احد يعرف
ولاشيء مؤكد !
لكن من المؤكد بانه جاء رؤساء وذهب رؤساء ، وسيجيء رؤساء وسيذهب رؤساء
وسيبقى العراق هو الرئيس
رئيس نفسه
عاش العووووووراق !
وطوبى للمجانين المتشبثين بأقوالهم كالمجانين !









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا