الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متاعب مهنة مذيعة تلفزيونية

ميسون البياتي

2008 / 7 / 14
الصحافة والاعلام


بعد تخرجي من الثانوية مباشرة عملت في تلفزيون العراق من بغداد وكان ذلك عام 1973 وقد جمعت بين عملي التلفزيوني ودراستي , فحصلت البكالوريوس والماجستير والدكتوراه وأنا أمام كاميرا التلفزيون . في الأشهر الأولى من عملي كنت معدة ومقدمة لبرامج الأطفال , لكني بعد أن أنهيت دورة في معهد التدريب الإذاعي بتفوق , فقد تم نقلي مباشرة الى قسم البرامج الثقافية وبدأت بتقديم ثلاث برامج دفعة واحدة وهي : فنون تشكيلية , مع الموسيقى العالمية , وعالم المسرح .
بحكم تغطيتي التلفزيونية لكم كبير من المهرجانات والمؤتمرات والندوات , تعرفت على المئات من مشاهير المثقفين والفنانين العالميين والعرب والعراقيين , وكنت سعيدة بعملي ومجتمع العمل الذي يوفره لي وجودي في التلفزيون الذي كنت أعده بيتي وأهلي وأصدقائي . لم أستسهل عملي يوما أو أتهاون في مسؤوليته كما يحصل عند البعض , بل كنت أعده مسؤولية كبيرة بقيت أحرص عليها الى آخر يوم عمل غادرت فيه التلفزيون عام 1997 .
قلة من الناس كجمهور أو مشاهدين , يعرفون التعامل بموضوعية مع مذيعة تلفزيونية , هناك من يحبك دون تحفظ وبلا سبب , وهناك من يكرهك دون تحفظ وبلا سبب , وكلا الحالين شر وبلوى ومجلبة للمشاكل , وربما نادرة هي الفئة من البشر التي تتعامل بموضوعية , لذلك رفعت شعارا لعملي يقول : موضوعية الناس غاية لا تدرك . وحين غادرت العراق وصرت أستطيع السير في الشارع بحريتي ودون نظارة أكبر من وجهي صرت أرى للحياة صورة أخرى لم أعرفها من قبل .
اليوم بعث لي صديق إيميلا فيه مجموعة من الصور لإستوديو بث تلفزيوني لإحدى القنوات العربية , وضعت الصور أمامي لأكثر من ساعة لتأملها بدقة . كنا في السابق نغني موشح يا زمان الوصل بالأندلس , ولم نكن ندري أنه سيأتي علينا زمان نعاني فيه كل هذه الحرقة على زمان الوصل في بغداد .. حسبي الله ونعم الوكيل .
عام 1978 تم نقلي الى قسم البث التلفزيوني , مع إستمراي في العمل مع القسم الثقافي كمقدمة برامج . وكنت مع زميلي وأخي المرحوم رشدي عبد الصاحب نشكل فريق عمل شاركنا سوية في تغطية الكثير من النشاطات والفعاليات إعلاميا .
من خلال تجربة سنوات الربع قرن التي عملت بها في التلفزيون أستطيع القول الآن أن المذيع الذي لم يجرب العمل في البث الحي غير المسجل , فإنه لا يعرف لوعة التلفزيون , مهما كان البرنامج الذي يقدمه مهما أو خطيرا . جربت إعداد وتقديم المئات من البرامج التلفزيونية , غير أني أضعها كلها في كفة , وفي الكفة الثانية أضع يوم بث واحد , خصوصا حين يكون ذلك اليوم إستثنائيا وغير عادي . وسأتحدث عن ثلاثة أمثلة فقط لهذا اليوم ( الغير عادي ) .
بعد نقلي الى قسم البث عام 1978 بحوالي شهرين وكنا نبث من إستوديو 6 الذي يقع في الطابق الثالث من إحدى بنايات التلفزيون , ذهب الرئيس المصري أنور السادات الى منتجع كامب ديفيد ووقع معاهدة التطبيع مع إسرائيل , فقامت الدنيا ولم تقعد في بغداد , عقد مؤتمر قمة بغداد وتقرر سحب الجامعة العربية من القاهرة وتعليق عضوية مصر فيها .
كنت وزميلي رشدي عبد الصاحب نغطي البث التلفزيوني يوم الجلسة الختامية لمؤتمر قمة بغداد . أناشيد وطنية تنزل بينها كارتات مكتوب عليها شعارات من نوع : لا للخيانة , لا للتطبيع , لا لحافظ أسد , لا للسادات , كل العرب الشرفاء يرفضون ... وهكذا
كنا أنا وزميلي نتناوب قراءة المكتوب على هذه الكارتات , ومخرجنا مظفر زكي يثبت نظره على الشاشات أمامه , متفقا معنا على نقل البث الى القصر الجمهوري , حال دخول الرئيس أحمد حسن البكر الى قاعة الإجتماعات .
سألنا مظفر زكي : من منا الذي سيقدم الإنتقال ؟ قال : أبو وسام هو الذي يقدمه .
كانت هناك جلسة جانبية غير منقولة على هامش المؤتمر , لذلك تأخر دخول الرئيس البكر الى قاعة الإجتماعات الرئيسية , حين صارت الساعة العشرة والنصف مساءا شعرنا بالإجهاد خصوصا اننا بدأنا هذه الفعالية منذ الخامسة مساءا , قال زميلي رشدي : نتناوب الذهاب الى قسم الأخبار لشرب كوب من الشاي . وكان قسم الأخبار في الطابق الثاني من بناية أخرى .
حالما غادر الزميل .. دخل أحمد حسن البكر الى قاعة الإجتماعات . فتح مظفر زكي مايكرفون الإستوديو وصاح : ميسون إنتقلي .
كنت حديثة عمل في البث , ولم أكن قد هيأت أي كلمة أقولها , ولم أكتب أي جملة أمامي على الورق , ومتعبة منذ أكثر من خمس ساعات من البث , وهذا رئيس دولة يدخل الى قاعة إجتماعات لإتخاذ قرار خطير على المستوى العربي .
مع عبارة : ميسون إنتقلي , مباشرة شاهدت صورتي على الشاشة , وكان علي أن أرتجل الكلام فقلت : سيداتي سادتي .. ننتقل بكم الآن .. الى قاعة الإجتماعات الكبرى .. في القصر الجمهوري .. لنقل ..... وقائع .. الجلسة الختامية .. لمؤتمر ........ قمة بغداد .
كاد يغمى علي حين رفعت صورتي من البث , ليس لحرج الموقف ولكن , لأني كدت أقول مؤتمر قمة كامب ديفيد .. بدلا من قمة بغداد .
الآن وبعد ثلاثين عاما على تلك الحادثة ما زلت أذكرها بكثير من الرهبة .. تخيلوا فقط ما كان سيحدث لو أني بدلت قمة بغداد بقمة كامب ديفيد ؟؟ كيف أثبت ساعتها عدم ( عمالتي ) للأجنبي ؟
اليوم الثاني الغير عادي كان عام 1981 . الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد تعاقدت مع شاه إيران على تزويده بثماني طائرات إف 16 , لكن دور شاه ايران إنقضى منذ عام 1979 وحلت محله الثورة الإسلامية , عندها تخلى الأمريكان عن وعدهم بهذه الطائرات الى إيران وسلموها الى .... إسرائيل , التي ما أن تسلمت هذه الطائرات الثمانية حتى صممت ونفذت بها قصف المفاعل النووي العراقي .
بطرية الحرس الجمهوري التي تحمي الإذاعة والتلفزيون تتخذ من سطوح بنايات الدائرة مواقع لنصب سلاح مقاومتها , وهكذا ما أن دخلت هذه الطائرات في مجال رادارات المراقبة حتى بدأ رد المقاومات العراقية .
الساعة السابعة والدقيقة السادسة من يوم 7 حزيران عام 1981 , وكنا في معمعة الحرب مع ايران , كنت أقرأ أخبار جريدة المساء , ومن دون سابق إنذار بدأت الدوشكات التي لا يفصلنا عنها غير سقف الإستوديو كلها بالرمي دفعة واحدة , لن يهم لو لم تكن صورتي على الشاشة , ولكن بوجود صورتي وصوتي على الهواء مباشرة , فهل يكون من حقي أن أخاف أو أرتبك أو أتلكأ ؟ ثم ما الذي حصل ليتم إستعمال الدوشكات القريبة من إستوديو البث وهناك تعليمات مشددة بعدم إستعمالها خلال فترة البث إلا في الحالات النادرة ؟ الصبر طويل , لكن عدد ذلك اليوم من جريدة المساء كان أطول من الصبر , وحين إنتهت الغارة وتوقف الرمي , لن أبالغ اذا قلت إننا حين نظرنا في وجوه بعضنا , كنا جميع العاملين بلون الليمون .
اليوم الثالث المميز كان في شهر رمضان عام 1986 .. حصلت ايران على مجموعة من الصواريخ البعيدة المدى وبدأت تقصف بها بغداد , حصلت حادثة قصف لا أريد ذكرها لأنها تخص أشخاصا لا أريد إيلامهم بتذكيرهم بها , جعلتني أخاف الى حد الهلع من هذه الصواريخ خصوصا وانا أعمل في دائرة مستهدفة , خلال تلك الفترة صرنا نوقع في سجل خاص يعود الى ضابط أمن الإذاعة إضافة الى توقيعنا في سجل الحضور والإنصراف , ذات يوم سألت عن السبب فقيل لي إنه لمعرفة من قد يكون مات اذا تهدمت علينا الدائرة .
خلال هذه الفترة سلمتنا شركة يابانية مجمعا فخما جدا للبث فتركنا الإستوديو القديم في الطابق الثالث ونزلنا الى الأرض . عند الساعة الحادية عشرة والدقيقة الثامنة مساءا وكنت أستعرض برامج اليوم التالي , لم أسمع صوت الإنفجار لأن الإستوديو محمي من الصوت الخارجي تماما , لكني شعرت بقوة ردم الصاروخ برجة شعرت بها تحت قدمي , ومن خلال الحائط الزجاجي , رأيت الفوضى عمت الزملاء في غرفة سيطرة البث , لثواني فكرت أن أقوم من مكاني وأغادر الإستوديو , لكن الأمور ليست بهذه البساطة , هل ترحمك ادارة الدائرة اذا فعلت ذلك ؟ ثم كيف ستكون ردة فعل المشاهد الذي يسكن في محافظة أخرى حين يشاهد مذيعته تفعل ذلك ؟
فعلا موقف لاأحسد عليه إطلاقا حين أكون مرعوبة الى هذا الحد , ويكون علي الإستمرار بهدوء .
حين غادرت الإستوديو وسألت عن موقع سقوط الصاروخ قيل لي إنه سقط على بناية جريدة العراق ( التآخي ) التي لا يفصلها عن الإذاعة غير عبور نهر دجلة , وكان الزملاء يتراكضون لأنهم ظنوا أن الصاروخ كان قد سقط على بناية أخرى من بنايات الإذاعة .
حصول رمي أو سقوط صاروخ مسألة يمكن التعامل معها بتلقائية شديدة وحسب متطلبات الموقف حين تكون خارج البث , ولكنها تكون صعبة الى حد بعيد عندما تكون موجودا على الهواء , ومشاعرك الإنسانية مستفزة , وعليك أن تتصرف وكأن شيئا لم يكن .
ألف تحية للعراق العظيم , وألف تحية لبغداد الخالدة , وتحيات حب الى كل زملائي وزميلاتي الذين شاركوني حب العمل الإعلامي .. رغم كل عذابه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كا?س العالم للرياضات الا?لكترونية مع تركي وعلاء ???? | 1v1 ب


.. فـرنـسـا: أي اسـتـراتـيـجـيـة أمـام الـتـجـمـع الـوطـنـي؟ •




.. إصابة عشرات الركاب بطائرة تعرضت لمطبات هوائية شديدة


.. حزب الله يحرّم الشمال على إسرائيل.. وتوقيت الحرب تحدّد! | #ا




.. أنقرة ودمشق .. أحداث -قيصري- تخلط أوراق التقارب.|#غرفة_الأخب