الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من تركيا إلى دارفور

سعيد لحدو

2008 / 7 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


بين صوت العدالة ، وسوطها..... تنتظر شعوب كثيرة حلول زمن المحاسبة على جرائم العصر من إبادات جماعية، ومذابح ارتُكِبَت بحقها من قبل حكومات وجدت حلولاً لمشاكلها السياسية في تدبير وتنفيذ المذابح الجماعية ضد شعوب وقوميات تحكمها وتتحكم بمصيرها، وذلك بوسائل وأساليب مباشرة حيناً، ومداورة أو بالواسطة باستخدام مجموعات سكانية أخرى بتوفير الدعم والتسهيلات وتأمين الغطاء والتمويه لها، لحجب تلك الأعمال الشنيعة عن عيون المجتمع الدولي، حيناً آخر. فترتكب جرائم فظيعة بحق الإنسانية ضد تلك الشعوب والقوميات كالتهجير الجماعي القسري، والترهيب والتهديد والتجويع، أو إجبارها على تغيير انتمائها الديني أو القومي أو لغتها أو ولائها أو مواطنها التاريخية، بهدف تفريغ مناطق معينة من سكانها الأصليين وتوطين آخرين ممن يدينون بالولاء للحاكم مكانهم.
يأتي هذا الكلام بمناسبة توجيه المدعي للعام للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو الأثنين الماضي ثلاثة اتهامات للرئيس السوداني عمر البشير بجرائم الإبادة الجماعية، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب أخرى ضد شعب دارفور. ومن المتوقع أن تجري ملاحقته من قبل المحكمة إياها بناءً على هذه الاتهامات.
إن أسلوب الإبادة والمذابح الجماعية هذه لحل بعض المشاكل السياسية التي تواجهها حكومات معينة، وإن لم تكن تركيا أول من ابتدعه، ونأمل أن تكون أحداث دارفور آخرها، لكنها، وللأسف الشديد، مازالت قائمة، وبشكل فجٍ وصارخ. لكن ما ارتكبته تركيا في أواخر الحكم العثماني، ومطلع الحرب العالمية الأولى، من مذابح مدبرة ومخطط لها مسبقاً من قبل حزب تركيا الفتاة ضد رعاياها المسيحيين من السريان الآشوريين والأرمن واليونانيين، بهدف إفناء هذه الشعوب، واجتثاث وجودها الديموغرافي في مواطنها الأصلية ومنذ آلاف السنين، ما سُميَ فيما بعد أراضٍ تركية، ما ارتكبته تركيا حينذاك مستغلة ظروف الحرب، كان أفظع ما يمكن أن تقدم عليه أية سلطة أو مجموعة حاكمة، مهما بلغت من الوحشية والتعصب. تلك المذابح أسفرت عن قتل أكثر من مليوني إنسان في عام 1915 وحده، وتشريد وتهجير البقية الباقية من هذه الشعوب، وإنهاء وجودها تماماً في أوطانها الأصلية التي أصبحت اليوم جزءً لا يتجزأ من الجمهورية التركية "الحديثة".
كل هذا حصل تحت سمع وبصر العالم "المتحضر"، وأحياناً بدعم ومساندة بعض أطرافه، وغض النظر وتجاهل الوقائع الفظيعة من الأطراف الأخرى.
إزاء هذا الواقع، لم يكن من المستغرب أن تفلت تركيا من قبضة العدالة وتنجو بفعلتها تلك، مستفيدة من زوغان النظر الذي مازالت تشكو منه سياسة القوى العالمية المؤثرة حين يتعلق الأمر بمصالحها الاقتصادية، على حساب المبادئ والقيم الإنسانية التي تتبجح بشعاراتها كلما طاب لها ذلك، أو وجدت فيها فرصة لتسخيرها لخدمة تلك المصالح. والأغرب أن هذه القوى مازال معظمها حتى اليوم يتنكر لتلك المذابح، حالها حال الحكومات التركية المتعاقبة منذ ذلك الحين، رغم كل ما سنَّه المجتمع الدولي من قوانين واتفاقات ومواثيق دولية تجرِّم هذه الأعمال وترفض سقوطها بالتقادم، وتؤكد على محاسبة مرتكبيها، سواء كانوا أشخاصاً أم مجموعاتٍ أم دول وحكومات. وحتى في الأمس القريب، حين أفنى صدام حسين عشرات الألوف من معارضيه الأكراد والشيعة العراقيين واستخدم ضدهم الأسلحة الكيميائية، وهم مسلمون، حالهم كحال شعب دارفور، لم يتحرك أحد ضده، بما فيهم منظمة المؤتمر الإسلامي، والدول والتنظيمات العربية والإسلامية الأخرى التي تنادت اليوم جميعها، واستنفرت قواها لمساعدة البشير وأعوانه المتهمين الآخرين. وحين تمت إزالة صدام عن الحكم، لم يتم ذلك من قبل أية منظمة دولية ،أو بقرار منها. وإنما، وكما هو معروف للجميع، تم ذلك من قبل الأمريكان، ولدوافع خاصة بهم، ورغماً عن المجتمع الدولي برمته، الذي انصاع أخيراً للإرادة الأمريكية مضطراً وبحكم الأمر الواقع.
إن وقفة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، واتهاماته الصريحة والعلنية للرئيس السوداني عمر البشير، وهو على رأس الحكم، بارتكابه جرائم من هذا النوع في دارفور، حتى وإن كانت لذلك دوافع سياسية، كما يرى البعض من أصحاب نظرية المؤامرة، إلا أن هذا الموقف الصريح من محكمة دولية لابد وأن يبعث على الأمل والتفاؤل في استيقاظ ضمير المجتمع الدولي أخيراً إزاء الانتهاكات الصارخة للمبادئ والقيم الإنسانية وحقوق الشعوب في الحياة في مناطق مختلفة من العالم، وعلى أيدي الحكام أنفسهم. وسواء مَثُلَ الرئيس البشير أمام المحكمة أم لم يَمثُلْ... وسواء كان مذنباً فعلاً أم لم يكن، فإن توجيه الاتهام بحد ذاته يُعَدُّ خطوة جريئة ومعبرة من منظمة دولية ارتأت أن تطبق القانون الدولي بروحيته دفاعاً عن الشعوب المضطهدة والمقهورة، ومحاسبة المجرمين أياً تكن مواقعهم ومسؤولياتهم. ومن الطبيعي في هذه الحال أن تشجب منظمة المؤتمر الإسلامي قرار المدعي العام هذا. وكذلك كان حال معظم الدول العربية والمنظمات المرتبطة بها التي صدرت عنها حتى الآن ردود فعل حياله. ذلك لأنه لا تكاد تخلو دولة عربية أو إسلامية من حالة مشابهة لما يعانية أهل دارفور اليوم، وما عاناه المسيحيون بكل انتماءاتهم القومية واللغوية والطائفية من قبل وما زالوا، في ظل حكومات لم تعرف قط معنى التسامح والعدالة تجاه مواطنيها، ولم تحاول ممارسة ذلك بأي شكل.
هل حان وقت الحساب الذي يجب أن يقدمه كلٌ عما اقترفت يداه إلى المجتمع الدولي؟ وهل بات لصوت العدالة سوطٌ يُلوَّحُ به في وجه مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، وهم كثر؟
وهل سنرى يوماً حكومة تركية في قفص الاتهام لتقدم دفاعها عما ارتكبه أسلافها بحق ملايين الضحايا الأبرياء من السريان الآشوريين والأرمن واليونانيين؟
نأمل أن تكون هذه الخطوة ناتجة عن صحوة الضمير الإنساني في المجتمع الدولي الذي أفقدته السياسة والمصالح أعز وأنبل المشاعر والقيم الإنسانية ليعود هذا المجتمع مجدداً لتصفية حساباته القديمة مع العدالة الضائعة، ويؤسس لنهج جديد في إحقاق الحق ومحاسبة المجرمين على جرائمهم، وتقديس قيم الحياة والكرامة الإنسانية باعتبارها أسمى ما يملكه الإنسان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قطر تعلق على مساعي الجنائية الدولية لإصدار مذكرات توقيف بحق


.. من بينهم طبيب ومعلم وطالب.. مقتل 7 فلسطينيين بنيران إسرائيلي




.. مستقبل السياحة في جزر المالديف لن يعتمد على سحر شواطئها فحسب


.. مقتل 7 فلسطينيين وإصابة 9 باقتحام الجيش الإسرائيلي لجنين




.. بين سليماني ورئيسي .. ما هو سرّ الخاتم؟