الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القافية.. حقيقتها ووظيفتها - القسم الأول

ثائر العذاري

2008 / 7 / 20
الادب والفن


إن الهوس التجريبي الذي يسود المشهد الشعري العربي اليوم، يضع في أعناق الدارسين مسؤولية مراجعة نظرية الشعر العربية ومحاولة فهمها فهما يتناسب مع ما لدينا من إمكانات العصر وروحه، مع النظر إلى خصوصية اللغة العربية شأنها في ذلك شأن أية لغة أخرى. ومن هذا المنطلق نكتب هذه السلسلة من المقالات، آملين أن تكون ذات نفع على المستوى النظري.

ليست دراسة القافية مهمة يسيرة كما قد تبدو للوهلة الأولى؛ ذلك لأن الدارس سيجد نفسه في مآزق نظرية متعددة، يتصدرها انعدام وجود تعريف جامع مانع لها.

إن دارس القافية يشبه دارس البكتريا قبل اختراع المجهر، فكلاهما يدرس ظاهرة يعرف كل الآثار والظواهر الناتجة عن وجودها والمحيطة بها، إلا انه لا يعرف كنهها ـ ولئن كانت إثارة السؤال هي الخطوة الأولى نحو الحقيقة، فلنبدأ هذا المبحث بالسؤال: كيف تعمل القافية وكيف تحدد؟، وإجابة السؤال تبدو معقدة بعيدة المنال بقدر ما يبدو السؤال ساذجا بسيطا.



إن ابسط صورة واقعية ممكنة للطريقة التي تتم بها استجابة المتلقي لبيت من الشعر هي أن نتصور البيت مكونا من ثلاثة مستويات متوازية: الصوت والوزن والدلالة.

ولعل الشكل الآتي يوضح هذا التصور:

http://www.alnoor.se/images/gallery/gallari_2/news/news_11/20.JPG



على الرغم من أن مستوى الصوت هو المستوى الوحيد الذي يتمتع بوجود حقيقي في امثل حالات التلقي (وهي الحالة التي نستمع فيها إلى القصيدة من الشاعر مباشرة) فإن للمستويين الآخرين المفترضين من الدلائل ما يجعل وجودهما أمرا مفروغا منه. فمستويا الوزن والدلالة لا يوجدان في الصوت نفسه، أي أنهما ليسا من مكوناته، بل هما يتولدان في نفس المتلقي. فلو استمع شخص ما إلى بيت من الشعر بلغة أجنبية يجهلها، فإن ما سيصل إليه من ذلك البيت، في الغالب، لن يكون سوى المستوى الصوتي. ولأن الدلالة والوزن ليس لهما وجود حقيقي في جسد البيت الشعري المتمثل بالصوت، فإن من غير الممكن إقامة تصور عملي يعزل هذه المستويات عن بعضها، بل أن ما نفعله ليس إلا افتراضا نظريا يهدف إلى الوصول إلى فهم أفضل لعملية التلقي التي تزداد تعقدا عندما تتم بوساطة القراءة لا السمع؛ ذلك لأن إدراك المستوى الصوتي سيتم هو الآخر بعد عدد من التحولات الذهنية المعقدة([1]) وعلى الرغم من أن المستويات الثلاثة التي حددناها متوازية مع بعضها، كما هي ممثلة في الرسم التوضيحي (على أساس أن كلا منها يمتد على طول البيت من بدايته إلى نهايته)، فإن سرعة وطريقة الاستجابة لكل منها ليست متزامنة. وقد حاولنا أن نبين هذا في المخطط، فرأس السهم يشير دائما إلى اتجاه الاستجابة، أما موقعه على الخط فيشير إلى تقدير تقريبي للحظة التي سيتم عندها إدراك المستوى المعين.

ويدرك المتلقي المستوى الصوتي بطريقة موازية لنطق المرسل بالأصوات المكونة للبيت الشعري، فأي صوت ينطق به الثاني يدركه الأول حالا. ولا يستطيع المتلقي أن يتقدم على المرسل فيستمع إلى أصوات لم ينطق بها بعد، ولا بد هنا من التفريق بين صوت الكلمة ودلالتها، لأن إدراك بقية الكلمة بعد الاستماع إلى جزء منها ليس إدراكا لصوتها، بل إدراك لدلالتها. ولهذا جعلنا رأس السهم في مكانه المعتاد في نهاية الخط.

أما مستوى الوزن فإن إدراك المتلقي له سيتقدم على المرسل فور معرفة الأول بالتشكل الوزني للبيت؛ ذلك لأن هناك صورة ذهنية كلية مفترضة للتشكل متفق عليها. ولذا وضع رأس السهم وسط الخط.

أما المستوى الدلالي فيتم إدراكه على وفق قانون التراكم الكمي المعروف، فكل كلمة في البيت ستعطي دلالة توضع فوق سابقتها في الذهن، إلا أن دلالة البيت الكلية لن تدرك إلا بعد تمامه وتوقف المرسل عن الكلام، وهذا الإدراك لا يتم بشكل متسلسل متصاعد، بل يتم بشكل مفاجئ حين يصل التراكم الكمي للدلالات الحد الذي يمكنه من إيجاد كيان نوعي جديد. ولهذا وضعنا رأس السهم الخاص بالمستوى الدلالي متأخرا عن خطه إشارة إلى أن التلقي لا يتم هنا بشكل مضطرد التصاعد.



ولنعد الآن إلى النقطة التي انطلقنا منها: كيف تعمل القافية؟.

مما لا خلاف فيه أن القافية تقع في آخر البيت الشعري أو إنها خاتمته، ولعل هذه الحقيقة ادني ما يمكن الاتفاق عليه. ويعني هذا أن القافية ستكون في ختام كل من المستويات الثلاثة التي حددت لعمل البيت. ولكن على أي المستويات تفعل فعلها؟ وكيف؟.

يقصر اغلب دارسي القافية اهتمامهم على المستوى الصوتي سواء كانوا من أنصار القافية أو ممن ينبذونها. فهم يرون أنها تقوم بكل وظائفها على هذا المستوى، فصموئيل دانيال يرى أن الشعر لن يرقى "إلى مراتب الجودة والكمال، ولن يرضي أو يغذي فينا ذلك الإحساس بالبهجة ما لم يلتئم ويترابط بتلك النقرة الصوتية المتكررة التي تبدو وكأنها زمام لولاه لظل الشعر مسيبا لا يستطيع أن يتماسك، بل لظل مندفعا بلا نظام كوهم رتيب لا نهاية له"([2]) فالقافية، عند دانيال، ليست إلا ذلك الصوت الذي يجعل نهاية البيت حتمية.

ولا يبعد د. عز الدين إسماعيل عن هذا الاعتقاد حين يعرف القافية بأنها "نهاية موسيقية للسطر الشعري هي انسب نهاية لهذا السطر من الناحية الإيقاعية"([3]) وحصر التعريف بين كلمتي (موسيقي ـ إيقاعية) يدل على اعتقاد صاحبه بضم القافية تحت المستوى الصوتي دون غيره.

ويدعو جبرا إبراهيم جبرا إلى نبذ القافية من الشعر الحديث منطلقا من المنطلق نفسه، فشاعر اليوم يعتمد، في رأيه، "الابتعاد عن الرنين والضخامة، لأنه يرى فيهما وقفة جوفاء مضحكة"([4]) وليست هذه الوقفة الجوفاء المضحكة إلا العناصر الصوتية للقافية بدليل "الرنين والضخامة"، بينما دفع هذا الرنين نازك الملائكة إلى أن تعتقد "أن القافية ركن مهم في موسيقية الشعر لأنها تحدث رنينا وتثير في النفس أنغاما أو أصداء، وهي، فوق ذلك فاصلة قوية واضحة بين الشطر والشطر"([5])

ونجد من الشعراء أنفسهم من يرى في القافية هذا الرأي، وتندرج أبيات الشاعر الانجليزي بوب الآتية تحت هذا الباب:

Wher er You find the cooling English breez

In the next Iine whispers through the trees

If crystal streams with pleasing murmurs creep

The reader s threatened (not in vain) with sleep([6])

وهذا الهجاء الساخر للقافية ، الذي أراد بوب أن تكون كلمة (sleep) بمثابة الضربة القاضية فيه، لم يُبيّن إلا على أساس أن القافية جزء من المستوى الصوتي بدليل استخدام بوب كلمة (murmurs) التي مهد لها قبل ذلك بكلمة (whisper) . وللقارئ أن ينظر إلى المفارقة التي تكمن في البناء الصوتي المحكم لأبيات بوب هذه.

ولم يخرج اليوت عن هذا المبدأ في تقديره أهمية القافية، إذ يرى أن غيابها يؤدي إلى أن يفلت الكثير من الموسيقى الرقيقة من الألفاظ، تلك الموسيقى التي لم تسمع سقسقتها حتى اليوم في فُسحة النثر([7])

ويبدو من النادر أن نجد موقفا شبيها بموقف بيرتون الذي يرى أن الاستخدام الأمثل للقافية يتوقف على غرض الشاعر، فلا بد لها من أن تكون منسجمة مع النظم ككل، وعليها أن تغني وتقوي الثيمة والخيال([8]) على أن يكون لدينا تفريق دقيق بين القافية بوصفها جزءا من البيت الشعري وبين وظائفها التي تنتج عن ذلك.






([1]) ناقش ريتشاردز هذه التحولات المعقدة باسهاب: ينظر مبادئ النقد الادبي: ص ص 166ـ 187.

([2]) الشعر كيف نفهمه ونتذوقه، اليزابت درو، ترجمة د. محمد ابراهيم الشوش، ص 45.

([3]) الشعر العربي المعاصر : ص67.

([4]) الرحلة الثامنة: ص 14.

([5]) قضايا الشعر المعاصر: ص 192.

([6]) How to Read a Poem, Roy THOMAS: University of London Press, London, 1967, P. 40.

([7]) To Criticize the Critic: P. 187.

([8]) The criticism of Poetry: P. 52








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اختيار الناقدة علا الشافعى فى عضوية اللجنة العليا لمهرجان ال


.. صباح العربية | نجوم الفن والجماهير يدعمون فنان العرب محمد عب




.. مقابلة فنية | المخرجة لينا خوري: تفرّغتُ للإخراح وتركتُ باقي


.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء




.. بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء خاص مع الفنان