الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول -تخليق الحياة الثقافية-

أحمد الخمسي

2008 / 7 / 21
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


في طنجة، ساهم أحد عشر طرفا من الصحف والجمعيات والنقابات، في تنظيم ندوة حول تخليق الحياة الثقافية، مع التفاتة صائبة تجاه الشاعر عبد الكريم الطبال، النموذج الحي للمبدع ذي الأخلاق الرفيعة. لذلك اقتضى الأمر الملاحظات التالية حول موضوع الندوة. خصوصا مع السكيزوفرينيا التي تنخر المجتمعات المتخلفة التي ننتمي لها، والتي تترك معيشنا حيص بيص بين السعي وراء القيم المضافة لنتبين أننا أضعنا في الطريق أكثر من قيمة أصلية. فأي معنى يبقى لمطلب التخليق في الثقافة وفي غيرها، ونحن معقمون ولنا من قوة المناعة ضد مكون حيوي في دياليكتيك الحياة اسمه: النقد الذاتي. مقابل الفيض غير المتوقف لذواتنا بكيفية تقهر كل حمية. فتورم الذوات لا يترك للتخليق فرصة.


سبق للأسبوعية الفرنسية (لونوفيل أوبسيرفاتور) أن خصصت ملفا لمميزات القرن التاسع عشر في فرنسا. واعتبرت شخصية الصحفي تجسد الإنسان الجديد في مجتمع فرنسا القرن التاسع عشر. الكاتب المؤرخ كريستوف شارل رصد التطور المتدرج للصحافة الفرنسية عبر استجواب، واضعا النقط على الأحداث العينية التاريخية، ليدلل على الارتباط العضوي بين التطور الديمقراطي، نزولا وصعودا، وبين درجة الحرية التي نعمت بها الصحافة الفرنسية. وقد أنهى النظام السياسي تردده بصدد حرية الصحافة بواسطة نص قانوني صريح صدر سنة 1881. ومن ثم، أصبح النظام السياسي الفرنسي عملاقا أعظم من الصحافة نفسها، لأنه أصبح السقف الأعلى الذي يعلو فوق واقع الحريات دون أن يمس بقواعدها لأنه يستمد منها بعض ركائزه.


ومنذ أن أصبح النظام السياسي الفرنسي مدرسة للمؤسسات الديمقراطية، أصبح منارا لكل أوربا الغربية. فلم يعد الإطار الجمهوري أو الملكي في البلدان الأوربية هو المهم. فقد تنقلب هولندا من النظام الجمهوري إلى النظام الملكي، لكن الملكية الهولندية اقترنت سمعتها بأوسع حقوق سياسية ومدنية لفائدة الشعب. وكذلك الأمر في الدنمارك، والسويد والنرويج وبلجيكا. علما ومن باب التكرار القول، إن العقل الأنواري الانجليزي، قد عرّف الصحافة بمثابة الرئة في الجسم بالنسبة لصحة النظام السياسي. إذ اعتبر النظام السياسي الانجليزي في منتصف القرن الثامن عشر مازجا بين نظامين، من تحت يحتكم لقواعد النظام الجمهوري مرتكزا على الانتخاب لإفراز الطبقة السياسية، ومن فوق يحتكم للنظام الملكي للحفاظ على تقاليد الاعتبار الدولي للبلد تجاه الغير. ومادام الاحتكاك بين سيادة الشعب وبين سيادة الدولة أمر وارد عبر كل قرار تتخذه الدولة، مما سيولد غضب الشعب، فالنشر للآراء عبر الصحافة وبحرية، يجعل المفاعل السلبي لردود الفعل بين التحت والفوق، يتبخر عبر الورق. ومن تم تلعب الصحافة دور المكيف للمناخ السياسي باستمرار، فتجنبه بلوغ درجة الحرب الأهلية.

نعم لقد لطخ التاريخ وجه النظام السياسي الفرنسي بلون مخجل هو لون الاستعمار وخوض الحروب المدمرة ضد الشعوب. كما ضعفت الملكية في المغرب لتجد نفسها تحت حماية نظام جمهوري أجنبي مختلف في الأسس الحضارية، طيلة نصف قرن تقريبا. ولم ينقد الملكية المغربية من الانحدار في الهاوية النهائية سوى إرادتين، إرادة محمد بن يوسف الذي تمكن من استعادة قوة الثقة الشعبية في شخصه، فتمكن من تجديد القيمة الرمزية التاريخية للملك، وبالتالي للعرش، طيلة الفترة الممتدة من 1947 (خطاب طنجة) إلى 1953 (التشبث بمطالب الشعب). وإرادة الشعب التي اتجهت نحو استرجاع السيادة، والتقطت الموقف الواضح عند ابن يوسف. فكان توحيد الإرادة الوطنية بمثابة تخليق للعمل السياسي بالدرجة والنوعية المطلوبة.



وبالمناسبة، يمكن كتابة ملخص في أسطر محدودة، لتحديد المعالم الكبرى التي رسمت صورة المغرب المناضل. سواء من أجل استرجاع السيادة الوطنية أو من أجل الرقي بالنظام السياسي ليستند على أساس متين في الأنظمة الديمقراطية الحديثة اسمه: سيادة الشعب. ورغم التعثر في الجزء الثاني، بسبب غلبة العناصر المحافظة في الدولة والمجتمع على الدوائر الحديثة في كليهما. ونظرا لضعف المحتوى الديمقراطي عند جزء واسع من مدعي الحداثة. وبسبب الطابع السطحي في المحول الثقافي المستعمل للتحديث. بل بسبب النية الوظيفية الاستعمالية المحدودة المغزى، من طرف المثقفين تجاه الأدوات الثقافية التحديثية والديمقراطية، فالدورة المعرفية (لوسافوار) لا تستكمل طريقها لتصل نحو المهارة العملية (لوسافوار فير) ثم لتتحول إلى نمط حياة (لوسافوار إيطر). وبالتالي لم تبلغ الطبقة المثقفة في المغرب درجة المعيارية في التعاطي الممارسة. لذلك مازالت عاجزة عن إبراز نموذج حياة حديثة نزيهة متعففة مقبلة على الحياة بلا عقد ولا قيود لا انتهازية ولا انفعالية.


إن اكتساب الثقافة الحديثة المعاصرة، يصبح لدى النخب التي لا تتردد في رسملة رصيدها في القول الثقافي إلى تقوية موقع وظيفي، وسيلة ضمن علاقات محافظة، أسريا ومهنيا واجتماعيا. في هذه الحالة القول الثقافي والفعل الثقافي قد يتخذ صبغة واجهة حديثة في الوقت الذي يكرس ثنائية سلوكية تكرس الجديد سلعة لتقوية بنيات القديم. أما أن تتخذ الخطابات الفكرية القيم الأنوارية موضوعا لها ووسيلة للتبيؤ مع السقف الدولي الراعي لقلب التربة المحافظة على طول وعرض الكرة الأرضية، فهناك العيون والآذان التي تلتقط بانتباه مقلق لهذا السلوك المزدوج للنخب المثقفة. عيون وآذان الشباب التي تميل بقياس فترتها العمرية إلى معيارية السلوك، إذ تفضل سلوك القناعات على سلوك المسؤولية، حسب تصنيف ماكس ويبر.


ماذا ينفع بعد ذلك التموقع مع الشرعية التاريخية الكاريزمية أو مع الشرعية الديمقراطية؟ هل ينفع التموقف بعد ذلك من أجل بالإصلاح من الداخل أو الإصلاح من الخارج؟ إن الحديث عن التخليق أصبح ضمن مسلسل تاريخي تحدده القوى التي رسمت أولويات الألفية وأهدافها. أما الماكينة الاستهلاكية التي تم إرساؤها لتضع الأرضية الصلبة لفائدة إيديولوجيا السوق، فيصبح مفعولها التأثير على الاستفادة الفعلية من حيز الحريات، ما دامت المواطنة قيمة ترتفع درجة مدلولها أو تنخفض، حسب الطاقة الاستهلاكية للمواطن نفسه. فالمواطن مواطن بقدر ما ينخرط في القيم الاستهلاكية.

لذلك، فالثقافة متوقفة على الوضوح التالي: هل هي أداة لتقوية الكينونة والمكون الاعتباري للإنسان؟ أم هي أداة لتوسيع دائرة التملك المادي. إن الحديث عن العنصرين لا يعني التناقض بينهما. لكن، المنطق الرابط بينهما يعني تحديد أي منهما المحور في الاستعمال الثقافي، الكينونة أم التملك؟

فالثقافة هي المحول والمكيف والمولف، أي العنصر الحيوي الذي يموقع ويبيّئ و يحيّن العناصر المادية الخام في ملكية الفرد، ليوجهها الوجهة الإنسانية، لينتقل من لحظة المعرفة إلى لحظة المهارة العملية إلى لحظة نمط حياة متكامل. حر ومسؤول عن الاختراق المستقبلي للقيم الجامدة الساكنة ضمن مستنقع الركود.

فدون اعتبار التعريف الآلي للثقافة كمحوّل معياري يعيد خلق المكونات الطبيعية والموروثة في الاتجاه المستقبلي، يبقى مطلب التخليق مثاليا ذاتيا، يدور حول نفسه. إن لم يكن يلعب دور مسح الواجهة للبنيات الثقافية التقليدية في الصلب. إن النظام الثقافي الذي يستند إلى تنظيم الاختلاف والاعتراف المتبادل، يعيد ترتيب مكوناته، ويوسع دائرة الحريات والاعتراف بالهوامش قبل أن يدعي نشر القيم الديمقراطية على الصعيد الدولي، فقد أعادت فرنسا الاعتبار للماركيز دو ساد، في منتصف القرن العشرين، علما أن تراثه الروائي، برنوغرافي مفكك للعلاقات الأسرية على مستوى العلاقات الجنسية. كتبه في السجن، قبل أن يفرج عنه الاقتحام الثوري للباستيل يوم 14 يوليوز 1789 في باريس. فرغم المفارقة بين المضمون المؤسساتي وبين العقد الاجتماعي في جزئه المحافظ، لكن العودة إلى المبادئ الثلاثة للنظام السياسي الفرنسي (الحرية، المساواة، الأخوة)، اقتضى تخليق الحياة الثقافية الفرنسية، الاعتراف بما تركه الماركيز دو ساد، بغض النظر عن الفلسفة الشخصية للأديب. فالعودة إلى القيم الأصلية ليستفيد منها كل أفراد الشعب، بوصلة لا تضيع صواب الممارسة ولا تجعل من الممارسة جعجعة بلا طحين.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرئيس الأوكراني: الغرب يخشى هزيمة روسيا


.. قوات الاحتلال تقتحم قرية دير أبو مشعل غرب رام الله بالضفة




.. استشهاد 10 أشخاص على الأقل في غارة جوية إسرائيلية على مخيم ج


.. صحيفة فرنسية: إدخال المساعدات إلى غزة عبر الميناء العائم ذر




.. انقسامات في مجلس الحرب الإسرائيلي بسبب مستقبل غزة