الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إشكالية الهوية

معتز حيسو

2008 / 7 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


(( إن التاريخ والنشأة هما الوسيلة الوحيدة لرؤية أنفسنا والجماعات التي ننتمي إليها . يقول جون دون : لا يوجد إنسان يمثل جزيرة مستقلة بنفسها . )) .
تكمن إشكالية وأهمية إدراك الهوية بكونها تمثل بآن واحد حالة الانتماء الفردي والجماعي. إن الهوية بأشكال تجلياتها المتنوعة والمتعددة ترتبط بشكل وثيق بالتاريخ والتراث بوصفهما المكونان الأساسيان للذاكرة المحدٍّدة لشكل تمظهر الهوية الفردية في سياق تجلياتها المجتمعية. لكن من البداهة بمكان عدم الركون إلى التاريخ أو التراث أو كلاهما بكونهما المحدّدان الوحيدان لتجليات الهوية بمستوياتها وأشكالها كافة . فالهوية بمستويات معينة تتأثر في سياق تناميها وتطورها المتغير والمتبدل بالشرط العام المستغرق لجملة العوامل الذاتية والموضوعية الخاصة ، فهي لذلك غير ثابتة وغير مغلقة ، بل تخضع كأي ظاهرة اجتماعية للتغيّر في سياق التطور الاجتماعي ، وهذا لا يعني على سبيل المثال لا الحصر انتفاء صفة العروبة عن الإنسان العربي لأي سبب كان، لأن الهوية بهذا المستوى تمثل حالة انتماء لا مجال فيها للتحول ، ذلك لجملة من الأسباب تتعلق بالتاريخ والتراث والثقافة والأصول القومية والعرقية و... ، بل يمكن للفرد أن يكون مثلاً: عربياً ،سورياً ،كردياً ،ماركسياً ،يتكلم اللغة العربية والفرنسية و الإنكليزية... ، مدافعاً عن حقوق المرأة ، ويمكن بذات الوقت أن يكون عربياً ويحمل الجنسية الأمريكية ، ويمكن أن يكون من أصحاب الرساميل ومدافعاً عن مصالح الطبقة العاملة في أحد الأحزاب الشيوعية .... بذلك فمن الصعوبة بمكان تحديد أو ضبط شكل تجليات الهوية الفردية المحكومة بالتطور والتغيّر في إطار أو سياق أو شكل وحيد و محدّد ، لكونها تخضع لمسار تطور متعرج ومتنوع . فالهوية الفردية على وجه الخصوص يمكن ضبط مضمونها وتحديد شكلها في حالة السكون والثبات، لكن هذا الشكل من التحليل والتحديد لا يتمتع بالموضوعية والدقة ، لأن لحظة تسّكين وتثبيت الهوية لضبط وتحديد مضمونها وأشكال تجلياتها، تخضع لعوامل التغيّر الجزئي ، وبذلك فإن ( هو لم يعد هو ) أي (( هو ليس هو بين لحظتين )) ، ولكي لا نصل لحدود العدمية واللإدرية في ضبط تجليات الهوية ،نقول بأن التغيّر الكلي والجذري العام والشامل لا ينطبق على الأشكال الأساسية لشكل تجلي الهوية الفردية عموماً والجمعية أو المجتمعية تحديداً ( النوع ، الجنس ، العرق ) ، رغم إن تموضعات الفرد الأساسية ( المذهبية ، الفكرية ، الطبقية .. ) من الممكن أن تخضع في بعض اللحظات ولأسباب ذاتية وعوامل موضوعية للتغيّر والتبدّل الذي يمكن أن يكون سطحياً و ظاهرياً ، أو بنيوياً شاملاً ، بشكل يتلائم مع جملة العوامل الذاتية الخاصة المعبّرة بشكل نسبي عن الشرط الموضوعي العام المتعيّن بأشكال تجليات ذاتية وخاصة .
إن الإنسان المولود في مناخ ثقافي معين ليس في حد ذاته ممارسة للحرية الثقافية بكونه ليس فعلاً اختيارياً ، على عكس القرار بالبقاء داخل نمط محدد ،أو تبني نمط مختلف . لذلك فإن ما يجب تفاديه بشكل خاص في هذا السياق هو الخلط بين التعددية الثقافية والحرية الثقافية ، مما يعني أن الثقافة ليست صفة متجانسة و ساكنة
إن حرية التفكير القائمة على التعددية والتنوع تساهم في تخفيف حدّة صراعات الهوية القائمة على القدرية والحتمية المغيّبة للاختلافات والتباينات والقائمة على تعميق التماثل العقائدي المؤسِّس لتزايد حدة الانقسامات وإعادة إنتاج وتوليد العنف الذي يساهم في تصعيده في بعض اللحظات مفاعيل خارجية . ومن الضروري أيضاً إدراك وفهم التعددية الثقافية لتفادي الفوضى المفهومية حول الهوية الاجتماعية ومقاومة توظيفها السلبي في زيادة حدة الصراع ، لذلك فإن بعضاً من أشكال مقاومة الإرهاب السلفي تكمن في إطلاق الحرية لتجليات الهوية المتعددة للإنسان.
إن بعض الجهات المعتدلة والمتنورة تميل إلى إعادة تعريف الأديان لوضعها في الجانب الصحيح ،وإذا كان لدى الجماعات السلفية الجهادية أسبابهم لإنكار التعددية في تجليات الهوية الإسلامية ، فليس من سبب لابتعاد الذين يريدون مقاومة تسييس التعصب الديني والإثني والطائفي عن إبراز الهويات الاجتماعية المتعددة إلا تكريس المزيد من الانقسامات المذهبية والعرقية والطائفية .
لذلك فإننا نرى بأن وهم الهوية المفردة والانعزالية يكرس الانتماء الأحادي للفرد بشكل يتناقض مع إمكانية تنوع أشكال تجليات الهوية في سياق الانتماء الاجتماعي ، و بذلك فإن ترسيخ و تأكيد الانتماء الأحادي يمثل تناقضاً موضوعياً مع مجتمع ديمقراطي مؤسّس على الحرية في اختيار شكل الهوية الفردية في إطار الانتماء الاجتماعي . وتكمن إشكالية الهوية الجبرية المعتمدة محو الهويات الأخرى في تغييب قوة وقدرة التفكير الاجتماعي والخيار الحر . ويمكن أن يكمن سبب الميل الأحادي لتجلي الهوية في القصور الفلسفي والسيكولوجي المستند إلى العصبية الضيقة والمحدودة التي تدلل غالباً على تعثّر الفرد في الوصول إلى المفاهيم المستقلة حول الهوية الخاصة نتيجةً للمعتقدات الثقافية المغلقة و بعض القيود الإدراكية . ويمثل صموئيل هنتنغتون في كتابه صراع الحضارات أحد أسباب إثارة الصراع المعاصر ، جراء تصنيفه المجتمعات وفق رؤية أحادية اختزالية تقوم على الثقافة و الدين داخل تابوات حضارية مغلقة ومتناقضة ، وذات فرادة خاصة تقوم على التعميم بصرف النظر عن الاختلاف والفروق الفردية والجماعية ضمن البنية الذاتية و الداخلية للكل العام وفق رؤية تقوم على وهم التفرد والانعزال. وبالمقابل فإنه يرى الغرب متفرداً بالتسامح والديمقراطية والحريات الفردية والتمدن في سياق إغفال التجارب والومضات الديمقراطية والتسامح في التاريخ العربي والإسلامي .
إن انتشار المدارس الدينية يمكن أن يكون سبباً في تدعيم الشقاق والانقسام وتعميق حدّة التناقض المذهبي والاجتماعي ، لكونها تحدّ من الاختيار العقلاني . إضافة إلى إنها تعزز فكرة الفدرالية الدينية التي تتعارض موضوعياً مع التعددية الثقافية القائمة على الاختيار الديمقراطي الحر، إضافة لكونها تتناقض ظاهرياً وشكلياً مع تعدد وتنوع تجليات الهوية ما فوق القومية في ظل الرأسمالية المعولمة المنتجة لأشكال من الهوية الاستهلاكية والأحادية المتجلية بتسليع الفرد في سياق تنميط منظومته القيمية والمعرفية التي تترافق مع إفقار معولم في إطار تحدّده الهوية النمطية للسوق بكونها النقيض الأساسي لمنظومة القيم الديمقراطية الممثلة لمشروع اجتماعي متكامل ، مما ينبئ بزيادة حدّة التناقض العالمي الذي يؤسس لثقافة العنف القائمة على تدعيم وتكريس الأصولية السلفية والأيديولوجيا العسكرية اللتان تمثلان الأرض الخصبة لإنتاج الحركات المتطرفة.
إن إعادة تعريف الأديان بأشكال يتم فيها استغراق تجليات الهوية الإنسانية و تجنيد رجال الدين في قضايا سياسية معينة يحط من أهمية القيم الدينية. ولو كانت هوية المسلم الوحيدة هي كونه مسلماً ، فإن كل المنظومات الفكرية والاجتماعية والقيمية للشخص المسلم لا بد أن تكون متصلة بالتقييمات الدينية ، و هذا الميل الأحادي لتحديد شكل تجليات الهوية تكرّسه القيادة أمريكية في حربها المزعومة ضد الإرهاب الديني الذي يتعارض ظاهرياً وشكلياً مع آليات اشتغالها في العراق وفلسطين ولبنان وأفغانستان .... . إن الرفض وعدم الرغبة في الإقرار بتعدّد انتماءات المسلم وأشكال تجليات هويته ، يساهم في تصعيد وتيرة التعصّب والعنف المذهبي ، وبذلك فإن ما يفعله المتطرفين الدينيين هو الحط من قيمة الفعل السياسي والهوية السياسية والاجتماعية و الدينية المعتدلة والمنفتحة باعتبارها تتعارض مع الهوية الدينية الأصولية . ويزعم قادة الغرب التمسّك بالقيم الديمقراطية بينما يشغلون أطراف العالم بالحروب والنزاعات العرقية والطائفية ، ويتأكد هذا جراء مسؤولية دول الثماني عن تصدير 84،31% من الأسلحة إلى البلدان الطرفية والمتخلفة ، إضافة إلى هيمنتها المعيقة لتطور وتنمية الاقتصادات الطرفية ، ويترابط هذا مع الأفاق المحدودة لآليات التفكير القائمة على التعامل مع الذات والآخرين من منظور ماضوي وفق جدليات ارتجاعية سلبية للإنسان في البلدان المتخلفة. ولذلك فإن التخلص الأيديولوجي والمعرفي من آثار التخلف معرض للفشل لو تجاهلنا ترابط القيم الثقافية الخاصة بالمنظومات الثقافية والقيمية العالمية ، إن قيم الماضي يمكن أن توجد في الحاضر وكلاهما يمكن أن يكونان حاضرين في المستقبل ، ويؤكّد هذا الترابط والتفاعل الكثير من الشواهد التاريخية والراهنة .
===========================================================












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تسعى لمنطقة عازلة في جنوب لبنان


.. مسؤولون عسكريون إسرائيليون: العمليات في غزة محبطة وقدرة حماس




.. ما أبعاد قرارات المجلس الأمني الإسرائيلي المصغر الخاصة بالضف


.. صحيفة إسرائيلية: نتنياهو فقد السيطرة ما يدفعه إلى الجنون وسق




.. ما أبرز العوامل التي تؤثر على نتائج الإنتخابات الرئاسية الإي