الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أولغا بيرغوليتس - حصار الروح

منذر بدر حلوم

2004 / 1 / 29
الادب والفن


    لو سألت روسيا عن أولغا بيرغوليتس لقال لك إنها شاعرة الحصار , شاعرة المقاومة , ويعني بذلك حصار لينينغراد والدعوة إلى مقاومة النازيين. لكن هذه الإجابة التي تلقي الضوء على جانب مهم تغفل الجانب الأهم في حياة الشاعرة ! فما أشبه قدر الشاعرة أولغا بيرغوليتس بقدر أنّا أخماتوفا ! فكلاهما اعتقل زوجها وأعدم في المعتقل , وكلاهما عانت الملاحقة والاضطهاد , وكلاهما كبست جرحها النازف قصائد تنشد , بالدعوة إلى الصمود والمقاومة وعدم النسيان , وطنا حرا من الاحتلال والطغيان , وطنا يصون كرامة أبنائه ودماءهم.
    كان الشاعر الروسي الشهير يفغيني يفتوشينكو قد كتب في إحدى قصائده , مسلطا الضوء على الجانب الأول ملمّحا إلى الجانب الثاني: ثمّة للنصر وجه مثقل بالمعاناة , وجه أولغا فيودوروفنا بيرغوليتس ".
    كانت أولغا بيرغوليتس (1910–1975) زوجة للشاعر بوريس كورنيلوف (1907-1931) الذي اعتقل وأعدم في المعتقل. وقد دعيت إلى التحقيق بعد اعتقاله وكانت حامل فداسوها هناك بأحذيتهم الثقيلة حتى أخرجوا الجنين من رحمها , لكن الوطن لم يخرج منها رغم ثقل الأبواط. فقد استوطنت روحها ذلك الرحم المداس محتضنة روح كرنيلوف الذي أعدم ككثيرين غيره من أجل مجد الجلاّد , وحصانة القلعة التي يختبئ فيها. بينما راحت صاحبة تلك الروح , بعد أعوام من القهر والملاحقة وتضييق الخناق , تشد أزر المحاصرين في لينينغراد وتبث فيهم روح الصمود والمقاومة عبر الأثير إلى أن انتصروا وكان التحرير.
   
    كنت أتمنى لو أفتتح هذه الوقفة القصيرة مع الشاعرة بمقطع شعري خفيف الوطأة فما وجدت فيما يناسب المقام أخف مما يأتي , فليعذرني القارىء على ما في التعريف من ألم , بل كدت أقول على ما في التاريخ من ظلم ! فكم سيكون علينا أن نعتذر ممن سيأتون بعدنا على ما في تاريخنا الذي نعيش من مظالم لم نفعل شيئا لمقاومتها:
بلى , أنا أخرى , تماما أنا غير ما أنا
ما أسرع ما تنتهي الحياة
    كتبت أولغا ذلك بعد ثمانية أعوام من إعدام زوجها الشاعر الشاب كورنيلوف , وكان ذلك ردا على قصيدة قال فيها:
 كل شيء غير ما كان , وأنت مختلفة الآن
غير لحن تغنين , وعلى واحد آخر تبكين

    ثم كاتبته عام 1946 تقول في قصيدة أسمتها (الخيانة) ترى فيها انبعاثه بقوة الحب وقوة الذاكرة وعودته إليها رغم كل ما يفصلهما من موت:
رغم أنف الموت وأنف الحياة
نهضت من قبورك الألف.
عبرت حقل النار ,
 عبرت ساحة الوغى والجحيم
عبرت الأتون الذي أسكره اللظى
عبرت موتك وجئت إلى لينينغراد
ولأنك تحبني وصلت.
إلى أن تقول في مقطع آخر بعد أن أضناها ترددها بين اليقظة التي تقول بوجود رجل آخر , الأمر الذي تعدّه خيانة , رجل هو نيقولاي مولتشانوف الذي عاشت معه كزوجة قبل أن يقتل في حصار لينينغراد وكان ذلك عقب موت ابنتها إيرينا هناك , والحلم الذي يحمل إليها حبيبها الشاعر الذي أعدم في معسكر الاعتقال الستاليني , لتعلن حين رأته في الحلم أن المسيح (أو الله كما تقول) قام في زمن ما كان أحد يجرؤ فيه على ذكر الله :
أمّا أنا فرحت أتمتم : " الله قام " ,
ورحت أرسم عليك علامة الصليب
صليب الذين لا يؤمنون , صليب اليأس
حيث الظلام دامسا يكون ,
الصليب الذي رسم في كل بيت
في ذلك الشتاء , ذلك الشتاء
 حين أنت قتلت
    نداء الوطن الذي انتصر رغم كل ما كان يدعو إلى الانكسار , ذلك النداء بالذات الذي جعل بيرغوليتس تقف خلف الميكريفون في لينينغراد المحاصرة الجائعة لتبث قصائدها الداعية إلى المقاومة والحياة رغم كل شيء , ذلك النداء نفسه راح يدعوها , وفاء للوطن ذاته , ألاّ تنسى شيئا مما كان , فكتبت عبارتها الشهيرة:
لا أحد منسي ولا شيء ينسى
    لكن , قد يكون ثمن النظرة إلى الخلف الموت في بلد حيث كان الملايين ما زالوا يعذّبون ويعدمون في المعتقلات , وليس لأي امرؤ أن يقوى على الصمت حين تنظر إليه عينان حبيبتان فيهما سؤال يحفظه جليد الشمال الأبدي , سؤال عن سبب كل هذا القهر والقطف المبكر للأرواح . كتبت بيرغوليتس:
لا , لا تلتفتوا إلى الوراء
إلى ذلك الجليد ,
 ذلك الظلام
هناك نهمةً تنتظركم عينا أحد ما
وأنّى لكم ألا تستجيبوا للنداء
ها أنا قد التفت فجأة اليوم
فرأيتهما تنظران إليَّ من الجليد
عينان حيتان , عينا صديقي ,
صديقي الوحيد إلى أبد الآبدين...
    إضافة إلى الشعر , كتبت أولغا بيرغوليتس مذكّرات بعنوان " نجوم النهار " فُقِدَ الكثير منها , كما تقول ماريا فيودوروفنا بيرغوليتس , حيث تعرض أرشيف الشاعرة إلى المصادرة مرتين: الأولى عندما اعتقلت عام 1938 , والثانية بعد موتها , وتضيف ماريا: مذكّرات أولغا توضح للكثيرين الذين يسألونني كيف استطاعت وهي التي كانت تفهم كل شيء أن تصبح المرتكز الروحي للينينغراد المحاصرة ".

كم يخجلني يا مواطنيَّ
الأحياء منكم والأموات
أننا نمجّد أولئك
الذين كبّلونا بالأصفاد
    كتبت أولغا هذه القصيدة عام 1939م. ورغم ما في هذه القصيدة من اعتذار فإن الوطن بالنسبة للشاعرة لم يكن ستالين ولا رجال الظلام العاملين في خدمته , إنما أولئك المعذبين ومعهم الأرض المعذّبة بين نار هتلر وجليد ستالين. ومن أجل هؤلاء المحاصرين بالقمع من جهة والبارود والحديد من جهة أخرى كان صوتها يرتفع من مكبرات الصوت شاحذا الهمم , محرّضا على الصمود والمقاومة. فالشحنة التي ملأت روح الشاعرة غضبا وحماسا شحنة حرية والحرية قيمة إنسانية عامّة عليا , والنداء إليها من طبيعة أرواح الأحرار التي ترفض الخضوع , وصوت الشاعرة الذي علا ممزقا حجب الموت إنما دعا إلى مقاومة الطغيان والطغيان واحد أينما كان لا يجمّله لون ولا تزينه شعارات أو رايات و لا تسوّغه أهداف يضعها أي كان أو مقدسات وهمية يجلد الناس من أجل أن يغمضوا أعينهم عما فيها من قبح .
-  انتهى -








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي