الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النسور تنأى بأبصارها بعيدا !

محمد حسين الداغستاني
صحفي وشاعر وناقد

2008 / 7 / 25
الادب والفن


ــ
( لقد إكتسب أهلنا الذين عاشوا بعيداً عن وطنهم ، الكثير من العادات ، وتركوا أثاراً حسنة في نفوس الآخرين ،
لكنهم خسروا فلكلورهم ، رغم ذلك فالحمدلله إنهم لم يذوبوا كما قال جدهم ـ لشه تسي ـ مثل قبضة ملحٍ في
برميل ماء ! ) غازي شمسو / حنين التراب (1)
ــــــــــ
إمتلكتُ ناصية الوجد ، وأيقنتُ أن التوتر الذي غمرني بدأ ينحسر ، وأصغيتُ بصمتٍ الى ذلك الصوت المجهول المتشظى بين أشجار الغابة المتشابكة ، وصوبتُ ببصري نحو " أوشحه مافة " (2) المنتصب خالداً عبر العصور ، حيث الثلج الناصع على القمم يقارع الشمس بعنادٍ قفقاسي مبين ، فأدركتُ أن تضاد الفصول يرسم بنباهة على إمتداد السفوح القاتمة الإخضرار ، حكايات الغابرين ، والمحاربين البواسل ، وأساطير العشاق الأوائل في الثنايا المنزوية للوهاد الممتدة عميقاً .. وحده ، هذا النسر الفريد المعتّد بنفسه حد الدهشة ، يفرد جناحيه بعزم ، ويتسيد الفضاء الأزرق من فوقي ، يجوب الآفاق برهاوة بالغة ، مستفهماً عن مفردات لغة منسية يتداولها زائر جديد مع الآخرين قد لا ينتم ِ الى هذه الديار !
لوهلة ٍ ، أمعنتُ النظر في تركتي الفقيرة ، الدفق الروحي السيّال يعانق وهج العقل في عطاءٍ موحي وسخي ، ليعبر حواجز الكتمان وتداعيات الحزن والزجاج المكسور في داخلي ، وأتذرع بالحصافة لأنشر أعماقي علناً تحت الشمس البازغة من خلف قمم السلاسل الجبلية المتداخلة كأنها تؤدي رقصة (القافة)(3) فــي ميدانٍ مفتوح ، وأعود بالذاكرة الى البعيد القريب ، هنا سال النجيع الحار غازياً أرض الجدود ، فأشعلَ النار في الأحشاء والضروع ، وإكتسحَ الحصى والجذور والأغصان المبتلة بندى الصباح ، ليلتحم مع ماء الجداول ، ويستكين برفق على شواطئ كوبان العظيم (4) ، ويبصم جبين العابرين بشارة التشتت في المهاجر السحيقة مع بارقة صاعقة مضيئة تحمل وعداً بعودة حتمية لا مفر منها .
أتعبني هذا الطائر النبيل بلا مبالاته الجارحة ، فأتحايل عليه بإختلاق حلولٍ قد أجذب بها إنتباهـــــــه ، قلت له : إن والدي كان يجلســـــني أمامَه ُ وأنا صغيرٌ ، يداعبني خفية ًعن والديـه(5) ، وأن جدي كان مهيب الطلعة صارماً فكان عليّ ومن معي وأنا اليافع أن أنتصب قائماً عندما يحل أو يغادر ، وأن النار في موقد العشيرة لا تنطفئ أبداً ، وأن أشرس المعارك بين الرجال تنتهي حالما تظهر إحدى النسوة وتلقي بمنديلها بين الفريقين المتصارعين ، وأن .... وأن ....
هل تصدقين ؟ كمن مستّه الصاعقة ، حلـّق النسر عالياً ثم إنقلب على ظهره وإتخذ مساراً إستعراضياً فخماً نحو اليمين تارةً ونحو الشمال تارة أخرى ، بعده صفّق بجناحيه بخيلاء مرتقياً متن الريح ليستعيد توازنه برشاقة مبهرة ! صحتُ بأعلى صوتي : داغُودْدْ .. داغوُدْ دْ !!(6)
يا إلهي .. إلتفت الطائر الجبار نحوي بغتةً ، أزعمُ أنه كان راضياً تماماً ، وأفترضُ أنه أدرك أخيراً بأنني أنتمي الى هذه الجبال ، فإنقضّ بسرعة ماحقة نحو الأرض ، ثم جلس على صخرة قريبة بإعتداد مغرور ، ورمقني بفضول رزن يليق بمحاربٍ باسل ! آنذاك أيتها النرجسة الجبلية الغالية ، تخيلتُك ِأمامي ترقصين جذلى كما كنت في عرسٍ بهيج ، وكنتُ في منتهى سعادتي !!
مايكوب / الأديغي / روسيا الإتحادية 17 /6/ 2006
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) غازي شمسو / وزير الثقافة في جمهورية الأديغي ، وكتابه (حنين التراب) يتناول دوره المباشر في إعادة توطين شراكسة كوسوفو في أرض الأجداد في الأديغي .
(2) أوشحة مافه : جبل المبارك / أشهر جبال الأديغي في شمال القفقاس .
(3) القافة / رقصة الفرسان الشركسية .
(4) كوبان / نهر عظيم يشق اراضي الأديغي .
(5) من غير اللائق وفق التقاليد الشركسية أن يداعب الأب أطفاله أمام والديه أو المسنين
(6) داغُودْدْ : حسناً جداً / وتدل على الدقة والكمال بلهجة الشراكسة الجبليين .










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المراجعة النهائية لطلاب الثانوية العامة خلاصة منهج اللغة الإ


.. غياب ظافر العابدين.. 7 تونسيين بقائمة الأكثر تأثيرا في السين




.. عظة الأحد - القس حبيب جرجس: كلمة تذكار في اللغة اليونانية يخ


.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت




.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر