الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اسقربوط البحر المظلم

محمود يعقوب

2008 / 7 / 29
الادب والفن



بلا حزنٍ مات( سيد عباس النجار) .
بلا ناعيةٍ تنعيه .. بلا باكيةٍ تبكيه ، ولا حتى من رطَّب َ شفتيهِ بماء الوداع الأخير ليرحل ظمآن صادياً !..
على عجلٍ واستحياء مات( سيد عباس) .
كان المساء ذاوياً وعارياً بجلده المغبر ، ورائحة التراب تثير اليأس والقنوط ، كانت الوجوه اكثر عتمة من المساء . وحين حملوه لم يكن سوى خشب التابوت الصنوبري العتيق - بصفرته الباهته - يقطّرُ الماً وحزناً .
لا روحه المتمرمرة ، ولا عظامه المفتتةُ ، أنّما عيناه .. عيناه العجيبتان فقط هما اللتان ترويان قصته . عيناه الصغيرتان المسترخيتان ، مثل عينيّ مهرج سيرك تبحران وترسيان .. سعيدتان وحزينتان . عينان لألعاب السيرك . وحالما شَعَرَ بأنه لايجيد هذه الالعاب ، استسلم بفتورٍ واغمضهما .حين حملوه فتّشتُ جيوب سترته الداكنة ، فلم اجد سوى عملة ورقية قديمة لم تعد تصلح للتداول ، تلتفُّ فيها صورةٌ صغيرة للمطرب (محمد عبدالوهاب) ، ربما كان ذلك كلَّ مايملكه .
رأيت فيما يرى النائم ، انني كنت في بستان الفضائل . كانت المعرفة تجلس على سريرها تحت القطوف الدانية، تمسك بعنقود عنب ، تلتقط حباته حبةً حبة ، وهي تحصي حسناتها .. حسناتها التي لاتعدُّ ، رافعةً صوتها بغرور كيما تسمعها الحكمة التي جلست خلفها بوقار كعادتها . وقد ابتدأت قولها :
- انا السراج المشع المنير .. وانا الدرب الممهد للمسير .. وانا وانا ......
وحين تعَبَتْ من العدِّ اضافت قائلةً :
- وفوق كل ذلك انا شلال السعادة لمن يستحم عندي ..
إذاك رمقتها الحكمة بطرف عينها ، وردَّت بهدوء قائلة:
- ان ذلك لايعني الكثير من دوني، مثلما لايعني الورد بدون عطره ونضارته .
أحتدم النقاش بينهما وكثر اللغط ، حتى تخاصمتا . فنهضت المعرفة ومضت الى العواطف تزجي الاوقات معها . ولأن المعرفة والحكمة أختان ، لذلك مهما تخاصمتا فأنهما لاتفترقان طويلاً ..
استذكرت هذه الرؤيا لأن المسالك التربوية عندنا تجافي الحكمة احيانا ، هذا ماقرأته في زاوية من عينيّ (سيد عباس) ، ولهذا ايضاً لم يختلج أيّما شئٍ في جسد الحياة برحيله ، بل أنّ الحياة نفسها لم تلتفت اليه ، بل أنّ الحياة كانت تتجاهله، بل أنّ الحياة كانت ترفضه !؟..
بعد عمر العشرين ابحر برفقة صديقه وقائده (فوزي ابو الكعك) ..( فوزي) الذي كان أناءً يغلي بالالحان الساحرة ، عازف ناي مغمور جدا في الدنيا ، تذوب وتتمزق الجوارح وَجْداً وشوقاً لأنغامه . ابحرا معاً .. بلا زادٍ ولامَؤونةٍ .. كانا ثملين .. ثملين بلا حدود . كانا بلا زمان ولا مكان . وفي غرفتهما على ظهر السفينة كان (فوزي) يعزف الحان (عبدالوهاب) ، فيهتز الخمر سكراً ونشوةً في كأسيهما المشعشعين ..
كان بحارين فاشلين، او هكذا وُصفا . كلاهما لايُعدُّ ولا يفتَقَدُ .. وُصفا بهذا الوصف لأنهما خمّاران ، ولأنهما لايحملان معهما كيس خضارٍ او لحم عند اوبتهما من العمل . لم يمنحهم احد فرصة لالتقاط الأنفاس . بعد العشرين جرى بهم العمر سريعاً .. " آه. ما أن يبلغ الانسان عامه العشرين حتى تبدأ سنوات عمره في المضي بصورة سريعة ومتلاحقة، اليس كذلك؟"*
كانا متشابهين بصورة مدهشة ، اعتمدا على نفسيهما فقط . (فوزي) صانع كعك ماهر، وهبته مهارة صنعته كنية ( ابو الكعك) كما يفترض ، و(سيد عباس) نجار يعمل على الدوام . لم يكونا سيئين ، انما اختار كلاهما طريقا معينا في الحياة . خَلبَ لُبّهما الحسن والجمال ، وفتنهما رحيق الكأس ، وأسرتهما عذوبة الالحان، كانت وعورة الايام وقساوتها تدفع بهما الى ذلك الطريق بسرعة.
كانت نبراتهما ساخرةً ، ممازحين يطربان للنكتة كثيراً ، تألقا في خلق الحكايات والقصص الكاذبة من اجل الضحك والمرح . كانا يعملان في الظل .. في دكاكين منزويةٍ .. وفرا لنفسيهما ذلك القدر من الظلام . ولم يكونا لينتظرا الشئ الكثير من الحياة .. فقط على ظهر السفينة وفي هدير الموج المجنون كانا هائمين في هواء البحر ، ويمدان ابصارهما بحثاً عن عرائسه .
كان الاخرون ينفرون عنهما .. الاخرون القساة ، الجفاة ، الذين يشبهون النبت الصحراوي بأشواكهم وبخلهم . ان الامر مخيبا للآمال حقا ! .
انهما يدركان بلا شك معنى صدود الناس عنهما .. يدركان ان لاشئ فيهما يختلف عمّا لدى الاخرين . فلكل منهما رأس وأطراف وصدر يسكن في ركنه الايسر قلب مترع بالحب . وحقيقة ان تلك المزاعم الجوفاء التي كان يطلقها عليهم الكثيرون جزافا حين يصفون الواحد منهما بأنه رجل بلا قلب ولا كلى ، لم تكن تعني شيئاً ، ولم تثن عزمهما في يوم من الايام من المضي في الحياة على هذا النحو .. على هذا النحو المتوهج بالفتنة والجمال . عاشا بلا رياءٍ وتدليسٍ . انهما بلا ريب ضربا عرض الحائط فرصا سانحة .. فرصا بلا حدود ، لكنها كما قدّرا فرصا ساذجةً ، وان كل مافعله الاخرون - عداهم - انهم تزوجوا وأنجبوا..
شيئاً فشيئا ، راح الاخرون يهجرونهما .. وعلى متن السفينة كان الصدود يلطمهم كالموج ، والبحر يرغي غيضاً . وفي يوم عصيب ناداهما القبطان بصرامةٍ ، وأمر بأخلاء السفينة
منهما !.. أُنزلا الى البحر في زورق صغير ، وأُ طلقا في عرض البحر وحيدين..
اطلقا لرحمة الامواج والانواء .
بعد سنين من التيه والخيبة ، شُوهد زورقهما، الخائر المترنح ، يقترب من الساحل . وكان (سيد عباس) يجلس فيه وحيداً بعد ان أتى الاسقربوط على حياة (فوزي) ، تاركاً عظامه
تتفتت ايضا .كان واقفا مستندا الى حافة الزورق ، واهنا وشاحبا، يقف بعينيه المحايدتين وانفه العثماني المهيب، وكوفيته التي يطويها فوق رأسه بطريقته المميزة . حين اقترب كثيرا من الشاطئ ، شَهَرَت المعرفة عَلَماَ احمر صغيراً ، وأومأت نحوه بغطرسة واصرار ، صارخةً بصوت عازم :
- تراجع .. تراجع ايها السيد .. هذه السواحل ليست مكانا للفاشلين .. عُد انت واسقربوطك الى البحر.
وفي لمح البصر اشرأبت اعناق المدافع الساحلية ، مهددة ومنذرةً . فيما كانت الحكمة تقف بعيدا يلجم فمها الذهول.
أدار (سيد عباس) زورقه وعاد الى البحر . كان الموج معربدا والريح عاتية . راح الزورق المعطوب يمتلئ بالماء سريعاً . وأمام هذه الشواطئ، وعلى مرأى من المعرفة نفسها ، كان الزورق يغرق على مهل ، و(سيد عباس) يقف مستنداً الى حافته .. يقف هادئاً تماما ، غير مكترث للحوادث وريب المنون .
عندما وصل ماء البحر الى مستوى وجهه ، برقت عيناه بريقا عجيبا ، وسكبتا على صفحة الماء قصته .. سكبتا قصته كاملةً ، فأضطرم البحر ، وأشتعل لهيب الموج الازرق متصاعدا عاليا ، وراحت ذؤاباته تتشضى رذاذا اثر رذاذ من الدمع ينسكب بحرقة ، فيرتعش جسد الماء مقشعراً!.. وبعد برهة ، كان الزورق يستقر في قاع البحر المظلم ، ولم يَعد يرى المرء شيئاً ، سوى اسراب فقاعات هواء .. فقاعات لؤلؤية ، انبثقت من صدر (سيد عباس) صاعدة الى سطح الماء . وكانت الاسماك تدور حولها صاعدة معها ، فقاعات تحمل صوتا ربانيا عميقا ووقورا ، يمكن لكل من اصاخ السمع اليه ان يسمع لحنا من الحان ( عبدالوهاب) .
وساعتها.. ساعتها المعتمة تلك ، وعلى طول الساحل تمددت المعرفة مضطجعة بلا همٍ ..
بلا وخز ضمير .
* الروائية الفرنسية ناتالى ساروت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جائزة العين الذهبية بمهرجان -كان- تذهب لأول مرة لفيلم مصري ?


.. بالطبل والزغاريد??.. الاستوديو اتملى بهجة وفرحة لأبطال فيلم




.. الفنان #علي_جاسم ضيف حلقة الليلة من #المجهول مع الاعلامي #رو


.. غير محظوظ لو شاهدت واحدا من هذه الأفلام #الصباح_مع_مها




.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف