الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سولجينيتسن في شَرَك المعايير المزدوجة ؟

منذر بدر حلوم

2004 / 1 / 30
الادب والفن


  ليس غريبا أن يشغل تباين المعايير كاتبا مثل سولجينيتسن , ويبدو أنه ليس غريبا أيضا تباين المعايير لديه. ولكن !
    يتساءل سولجينيتسن في الخطبة التي أعدها لحفل تسلمه جائزة نوبل للآداب , قائلا:" كم من معايير القياس في العالم !؟  إن لم يكن هناك الكثير منها , فهناك العديد [..] فلكي لا نتألم نشيح بنظرنا عن كل المعايير الغريبة , كما نشيح به , عادة , عن الجنون والضلال , ثم نحكم على العالم كله بمعاييرنا الخاصة". ثم يتساءل في موضع آخر من الخطبة نفسها:" ولكن من الذي بإمكانه أن يوحّد هذه المعايير وكيف ؟ [..] من الذي يستطيع أن يعلّم هذا الكائن البشري الخامل العنيد كيف يشعر بأفراح الآخرين وأتراحهم , ويشعر بمداها ومدى الضلال , من دون أن يختبر ذلك كله على حياته الخاصة ؟ " فيجيب:" إنه الفن , إنه الأدب. فتحت سلطتهما تقع تلك المهمة العجيبة: التغلب على النقيصة البشرية – التعلم فقط من التجارب الذاتية الخاصة , بإدخال تجربة الآخر إلى داخل الإنسان ".
    ليس بوسعنا إلا أن نوافق على وظيفة الفن والأدب هذه ونؤكد عليها دون التأكيد على الوظيفة التي يتوخاها سولجينيتسن من نقل التجربة. فنحن , على الأقل , نعرف من تجربة تعامل سولجينيتسن مع معاناة شولوخوف ومعاناته الخاصة مع جائزة نوبل , وما أثير حولها من اتهامات وشكوك , ما يثير التساؤلات حول جدوى انتقال التجربة , بل وجدوى عيشها. فماذا عسانا نقول إذا بقيت معايير الأديب متعددة ومختلفة رغم عيش التجربة ذاتها ونقلها إلى الغير عبر صاحب المهمّة العجيبة – الأدب ؟!
    هذا السؤال يتناول تجربة شولوخوف(1905-1984) مع جائزة نوبل للآداب(1965) والدور الذي لعبه سولجينيتسن(1918-    ) بعد منحه هو الآخر الجائزة نفسها(1970) في إفساد العقد الأخير من حياة صاحب( الدون الهادئ). فما أفاد ما كتبه شولوخوف في خطبة نوبل:" أتمنى لو أن مؤلفاتي تساهم في جعل الناس أفضل وأنقى روحيا..". ولا أفاد ما جاء بعد ذلك من تجربة , كما سنرى.    
    قد يكون كافيا تذكير القارئ ببعض مما جاء في كتاب( شولوخوف وأضداده) وقدّمنا عرضا له في (أخبار الأدب)(عدد 3 آذار 2002). فمؤلف الكتاب كوزنيتسوف يتحفنا بالكثير من مساهمات سولجينيتسن ضد شولوخوف , وإرث شولوخوف الأدبي. أمّا ما يثير الغرابة فهو أن ينبري سولجينيتسن نفسه بعد أن ذاق مرارة التشكيك بحقه في نيل الجائزة , وبسوية أعماله الأدبية واتهامه بأنه خُصَّ بالجائزة لأسباب سياسية , أن ينبري للتشكيك بحق شولوخوف بالجائزة , مشككا بتأليف الأخير للدون الهادئ . كان لدى سولجينيتسن حصان أبيض خاسر راهن عليه , ودعم سعي الآخرين للمراهنة عليه , هو الضابط الأبيض فيودور كريوكوف . فبالعودة إلى ما قيل عن تأليف آخرين للدون الهادئ , نجد سولجينيتسين يلعب دورا كبيرا في إحياء التشكيك بتأليف شولوخوف للرواية , مؤكدا تأليف الضابط الأبيض , من موقف معاد للحمر , للدون الهادئ , على الرغم من ضعف موهبة الأخير- كما يقول كوزنيتسوف مدير معهد غوركي للأدب العالمي - وعدم جواز مقارنة أعماله بالدون الهادئ , و على الرغم من عدم عثور سولجينيتسين على قصاصة واحدة , بل على سطر واحد على علاقة بالدون الهادئ في أرشيف كريوكوف المحفوظ في مكتبة لينين و البالغ (57778 ) صفحة . " و هو نفسه يتحدث عن ذلك في الفصول الأولى من كتابه ( تناطح العجل وشجرة البلّوط) ".  أم أن العماء الأيديولوجي  هو الذي جرّ سولجينيتسن , المتهم من قبل الحمر و غيرهم من ذوي الألوان الأخرى بمنحه جائزة نوبل لأسباب سياسية , إلى مهاجمة شولوخوف و الوقوف في صف الحاملين عليه , فضاعت المعايير التي يحدّثنا عنها بحماس في خطبة نوبل ؟ لكن يبدو أن سولجينيتسن نسي أن شولوخوف - على الأقل في (الدون الهادئ) - لم يكن أحمرا , بدليل أنه هو نفسه , أي سولجينيتسن , يرى الرواية عملا مكتوبا بقلم ضابط أبيض !
    كان سولجينيتسين قد كتب مقدمة لكتاب ميدفيدوفا- توماشيفسكايا(رِكاب الدون الهادئ) بكسر الراء , وعنه أخذ مؤلف ( معجم الأدب الروسي بعد 1917 ) الذي أصدره ناقد الأدب الألماني ف. كازاك في لندن عام 1998 . جاء في المعجم الموسوعي المذكور " خمسة بالمائة فقط من المجلدين الأول و الثاني و ثلاثون بالمائة من المجلدين الثالث والرابع كتبا بريشة شولوخوف ]...[ أما المؤلف الحقيقي للرواية فهو الضابط القوزاقي الشهير فيودور كريوكوف , الذي لم يكن يستطيع كضابط أبيض , بطبيعة الحال , نشر عمله " و كان مرجعه في ذلك كتاب (رِكاب الدون الهادئ) و خاصة ما جاء في تقديم سولجينيتسين له . علما بأن، الكتاب نشر في باريس عن دار إيمكا – بريس عام 1974. أما الرد فجاء – كما يذكر كوزنيتسوف – على لسان غ.س. يرمولايف البروفيسور في جامعة برينستون معتبرا أن أحكام مؤلفة الكتاب و سولجينيتسين مبنية على قلّة دراية و فنتازيا و مقدمات خاطئة و تأويلات شخصية.
    من جديد نعود إلى قصة سولجينيتسن مع جائزة نوبل والحرب التي تعرّض لها قبل زمن قصير من تقديمه ل(رِكاب الدون الهادئ) الموجّه ضد شولوخوف. فمن المعروف أنه ما أن أعلن عن منح سولجينيتسن جائزة نوبل للآداب عام 1970(( على قوّته الفلسفية الأدبية في متابعة تقاليد الأدب الروسي)) حتى راحت الصحافة السوفيتية تنشر المقالات المشككة بسوية سولجينيتسن الأدبية والمتهمة للأكاديمية السويدية بمنحه الجائزة لأغراض سياسية. كتب سولجينيتسن رسالة إلى الأكاديمية الملكية السويدية قال فيها:" كنت قد عبّرت عن رغبتي في قبول دعوتكم والمجيء إلى ستوكهولم...ولكن خلال الأسبوع المنصرم جعلني الموقف المعادي لمنحي جائزة نوبل في الصحافة السوفيتية والعودة إلى ملاحقة كتبي (طرد من يقرؤها من العمل وفصله من المعاهد والجامعات) جعلني أتوقع أن يستغل سفري إلى ستوكهولم لإبعادي عن وطني ومنعي , ببساطة , من العودة إلى دياري". ولكن بعد أن اطلع سولجينيتسن على القواعد الناظمة لتسليم جائزة نوبل راح يكتب:" يمكنني أن أستلم شهادة نوبل والميدالية من ممثليكم في موسكو في وقت يناسبنا معا , إذا كان ذلك مقبولا لديكم". لكن هذا الاقتراح لم يبسّط المشكلة , فوزارة الخارجية السويدية والسفارة السويدية في موسكو لم تقدما على ما يغضب السلطات السوفيتية. لذلك لم يستطع كارل رانجار جيروف ممثل الأكاديمية الملكية ونيلي ستول ممثل صندوق نوبل أن يفعلا شيئا سوى تقديم اقتراح بتسليم الجائزة في مكتب السفير في لقاء مغلق. لكن سولجينيتسن لم يقبل مثل هذا العرض , فكتب يقول:" تبدو لي الموافقة على هذا الاقتراح مهينة بحق جائزة نوبل نفسها. فكما لو أن هذه الجائزة رذيلة يجب حجبها عن الناس. ما أعرفه أن تسليم الجائزة يتم بحضور الناس لأن لاحتفال كهذا دلالة جماهيرية". على أثر ذلك قام جيروف وستول بلقاء يارينغ سفير السويد في موسكو للبحث عن حل مقبول. لكن السفارة السويدية اعتذرت مقدّمة حجة مضحكة:" عدم وجود قاعة في السفارة تصلح لذلك" مكررة العرض السابق بتسليم الجائزة في مكتب السفير دون حضور مدعوين. وبدوره سولجينيتسن كرر رفضه للاقتراح , قائلا:" أهذه القطرة الصغيرة من كل تلك الغيمة الكبيرة !" . ثم قدّم , ردّاً على حجة السفارة بعدم وجود مكان , الاقتراح التالي:" أتجرّأ وأقترح القيام بذلك في شقة سكنية خاصة في موسكو. في الحقيقة , هذه الشقة ليست أكبر من السفارة السويدية , ومع ذلك يمكن لأربعين إلى خمسين شخصا أن يجتمعوا فيها براحة , وفق المفهوم الروسي للراحة. يمكن للاحتفال , هنا , أن يفقد شيئا من رسميته , ولكنه سيكسب حميمية , دفئا بيتيا , مقابل ذلك. تصوروا , أيها السيد جيروف , كم هو هائل العبء الروحي الذي سنزيحه عن كاهل السيد السفير, بل عن كاهل وزارة الخارجية السويدية". رحّب جيروف بالفكرة وبدأت التحضيرات للاحتفال بتوجيه الدعوات وتحديد الموعد. إلا أن الكريملين انتصر ثانية على الأكاديمية الملكية السويدية , ولم يمنح جيروف الفيزا اللازمة للقدوم إلى موسكو سواء كضيف شخصي أو بصفة رسمية. ومع إحساس عميق بالإهانة كابده سولجينيتسن تجاه مدعويه , رفض استلام الجائزة إلا بصورة علنية لائقة , فكتب إلى الأكاديمية الملكية يقول:" تسمح قوانين الأكاديمية السويدية , كما أوضحوا لي , بحفظ الميدالية والشهادة إلى ما لا نهاية. فإذا لم تكفني حياتي لاستلامها , أوصي بها لولدي ".
    وبعد أخذ وردّ طويلين اعتقل سولجينيتسن من جديد في 13 شباط 1974 وأودع سجن ليفورتوفو في موسكو , وفي ليل ذلك اليوم نفسه أعلن عن تجريده من جنسيته السوفيتية (جرّاء خيانته للوطن) , وبلغ قرار طرده من البلاد. ثم نقل بالطائرة إلى فرانكفورت في ألمانيا الغربية. وما أن انقضى شهر على ذلك حتى تسلّم جميع أفراد أسرته(زوجته سفيتلوفا و والدتها , وأولاده , بمن فيهم ابنه من زوجته الأولى نتاليا ريشيتوفسكايا) تصريحا بالهجرة إلى خارج الاتحاد السوفيتي.
    وهكذا لم يستلم سولجينيتسن جائزة نوبل إلاّ بعد أن فقد جنسيته السوفيتية , ولم تُبرّأ ساحة شولوخوف إلا بعد اكتشاف مخطوط الرواية(عام2000) , وبعد أن كان قد فقد حياته , وقبل ذلك ثقته بالناس الذين تمنى لو يجعلهم أدبه أنقى , وأكثر إنسانية. أما الذي بقي بعد هذا وذاك فالمعايير المزدوجة التي لم تستطع التجربة المشتركة المعيشة توحيدها كما لم يستطع الأدب ذلك.
    والسؤال الآن: بعد أن ثبت بطلان ما جاء في مقدمة (رِكاب الدون الهادئ) وفي غير مكانةمن اتهامات ضد شولوخوف , هل يعود سولجينيتسن إلى تفحص معاييره , وإلى تفحص وظائف التجربة الحياتية و وظائف الأدب ؟ أم أن الحياة في الأدب أيضا لا تستعاد !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهرجان كان السينمائي - عن الفيلم -ألماس خام- للمخرجة الفرنسي


.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية




.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي


.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب




.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?