الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إنشاءالله

نادر قريط

2008 / 7 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


قالت محدثتي المستعربة: يبدو أن لغتكم تعاني من ضمور في صياغة المستقبل، مقارنة بالفرنسية مثلا، التي تعجّ بتصاريف عديدة لتحديد المستقبل(مباشر، قريب، بعيد، بسيط، شرطي..) فلولا "سوف وإبنها سين التسويف" لأصبح المستقبل العربي في خبر "كان" ثم أضافت بدعابة ساخرة: وماذا تفعلون بالمستقبل، مادمتم تملكون "إنشاء الله".
لا أنكر أن هذا الحوار الطريف إستفزني، وبدأت أقلب الذاكرة عن تصاريف لغوية لزمن المستقبل، وعلى العموم كان الأمر عبثيا وسخيفا، أما في لهجاتنا المحكيّة!! فتبدوالحالة أشد بؤسا ومرارة، و كأن تلك اللهجات، تبرأت حتى من"سوف وإبنها سين"!! فاللهجة المصرية إبتكرت دينامية خاصة للتعبير بإدغام "حـ " (حـ نقول، حـ نمشي، حـ نأكل..) والشامية ألزمت الفعل ب"راح نأكل " راح نروح..إلخ وماعدا هذه الصيغ البدائية تصبح لغتنا خرساء. حتى عبارة (إنشاء الله)التي تملك شحنة مستقبلية للتعبير، فدلالتها، متلوّنة وحربائية، وذات طبقات دلالية مركّبة؟
إنشاء الله، تعني الهيمنة اللاهوتية على المستقبل، والإيعاز بتركه إلى مقدِّر الأقدار، الذي لن يُصيب إلا بما كتب. أما الحديث عن المستقبل فهو مادة للمنجمين وراجمي الغيب، والتحكم فيه وتقريره هو إعتداء سافر على المشيئة الإلهية!! من هنا تقول كتب الرياضيات الوهابية: الخطان المستقيمان المتوازيان لا يلتقيان إلا بمشيئة الله؟
لكن الحياة العملية، والتكرار، جعل من هذه العبارة، لازمة لغوية، تعني في أحسن الأحوال: (لاشيئ). وأحيانا تعني الرفض المؤدب، أوالتهرب من المسؤولية، وهنا تمارس لغة الضاد، وظيفتها كأداة للتمويه والمخادعة، وتتستر على الكسل والعشوائية، بمزيد من التوكّل والتثاؤب.
هذا عن الطبقات الأركيولوجيا القديمة " لإنشاء الله " ، أما الطبقة الأخيرة، فقامت بتسييس العبارة، ومنحها مسبحة صلاة، وزجّها ضمن مفردات الصحوة وفي قواميس بنوك النهب الحلال.
لقد صعقت في زيارتي الأخيرة للقاهرة، فإنشاء الله أصبحت تحشر نفسها في كل مكان، وأذكر أني سألت صاحب كشك لبيع الصحف والكتب عن مكان الفندق الذي أضعت طريقه. إجابني (بعد أن مسح لحيته بيده، وصلّى وسلم وتعوّذ وشكر وحمد): على اليمين إنشاء الله؟
لا أدري قلت في نفسي سأتذرع ببعض البلاهة، كوني سائحا غريبا، وأثرثر معه، ما إستطعت سبيلا قلت:
لماذا على اليمين إنشاء الله؟ إما أن يكون على اليمين أو لايكون! تلك هي المسألة ( كما يقول شكسبير) ولا أظن أن الله سينقل الفندق إلى شارع آخر؟
إبتسم الرجل بمكر، وحدس من هندامي وبحلقتي المستمرة في عناواين كتبه، بأني زبون إفتراضي(وصيد ثمين) ومهما بلغت التقوى والعفة والورع، فإن الإنسان لايريد أن ينام بمعدة خاوية، والدين الذي يدل على تجارة تنجي من عذاب أليم ، أصبح دكانا لتجارة تنجي من أمور أخرى.
قال الرجل (بعد أن إختصر إبتسامته وأعاد زبيبته المزدوجة إلى مكانها الطبيعي):
إن الله قادر على كل شيئ يا أخي، ولو أراد أن ينقل الفندق لفعل؟
قلت له بخبث: أنت متأكد أن الفندق على اليمين؟ أم أن الله نقله إلى شارع آخر !؟
أجاب: بالتأكيد هوعلى اليمين، ولم ينقله أحد
قلت له: وما أدراك أن الله لم ينقله إلى شارع آخر! أليس في قولك تدخلا بمشيئته وعلما بما لايعلمه إلا قدير عليم
شيئا فشيئا، إزدادت أريحية الرجل، وإزداد ثقة، ومرحا، وأخذ يعرض أمامي بعض الكتب المفقودة في الأسواق، وما يخفيه الباعة من كتب الملاحدة الملاعين، وبالصدفة وقع نظري على عنوان فقررت أن أشتريه، وعندما سألته عن السعر قال لي:
ستون جنيها إنشاء الله؟؟









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سوليفان في السعودية اليوم وفي إسرائيل غدا.. هل اقتربت الصفقة


.. مستشار الأمن القومي الأميركي يزور السعودية




.. حلمي النمنم: جماعة حسن البنا انتهت إلى الأبد| #حديث_العرب


.. بدء تسيير سفن مساعدات من قبرص إلى غزة بعد انطلاق الجسر الأمي




.. السعودية وإسرائيل.. نتنياهو يعرقل مسار التطبيع بسبب رفضه حل