الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العبارة المصرية كنموذج للغرق العربي

عاصم بدرالدين

2008 / 8 / 2
حقوق الانسان


النحيب وحده لا يكفي ليعيد إلينا الشعور بوجودنا. فصوتنا أصبح غارقاً في المأساة، وإذا كانت مصر المقصودة مباشرة وصاحبة الحدث الآن، فإن كل الدول العربية تعاني من الشلل، والداء، نفسه. إن غرق عبارة "السلام 98" في 2 شباط عام 2006، يكفي وحده كدليل قاطع على تدني قيمتنا الإنسانية في بلداننا. ليس الغرق وحده، بل كل ما سبقه من أحداث، دفعت بالغارقين وقد تجاوز عددهم الألف، وقلة من الناجين، إلى قطع حدود بلادهم، وترك عائلاتهم وبيوتهم وحياتهم العادية، نحو المجهول من أجل البحث عن فرص العمل ولقمة العيش، ثم العودة إلى الوطن الصورة، الوطن: "الخرقة" البالية، على متن سفينة أشار أصحابها مسبقاً أنهم "غير مسؤولين عن سلامة الركاب"!

ثم تأتي المحاكمة لتبرئ المسؤول الأول، لتكشف لنا عن فصل آخر من المأساة، لتجدد إحساسنا بالعدم وعدمية الوجود لتثبت النظرية القائلة أننا مجرد خراف، أننا كالبهائم ننساق كيفما كان وبصمت وسكون، حتى ناصية الموت. كيف يمكن لصاحب العبارة أن يكون بريئاً وسفينته غرقت بسبب إهمال مقصود وانعدام المسؤولية والحس الإنساني والأخلاقي تجاه أرواح الركاب وأسرهم، حسب التقارير القضائية والإعلامية؟

لكن المشكلة الأهم تبقى خارج هذه الدائرة المؤقتة لحدث آنيّ. إنها ليست هنا، على خطورة ما حصل، لأنه حدث عابر كالعبارة، ومتلاش مثلها. بينما الطامة المستمرة، التي ترافقنا أبداً ودائماً، تكمن في بنية النظام السياسي الفاسد المتحكم في العالم العربي من جهة، وفي التقاعس أو الخمول الشعبي من جهة أخرى.

ليس ممدوح إسماعيل، إلا أحد دوائر الفساد المصري الكثيرة، المرتبطة حكماً بالفساد الأم في مؤسسات الدولة تتابعاً إلى رئيس الجمهورية وفريقه وحزبه الحاكم. ولا ريب أن رجل الأعمال المذكور، سيخرج يوماً مدعياً البطولة لتعرضه للظلم وحملات الافتراء وتشويه السمعة من قبل بعض رجالات الصحافة والعامة من الناس، وهذا ما يشي به قرار المحكمة بإتهام قبطان باخرة "سانت كاترين" بعدم مساعدة ركاب العبارة الغارقة -وهذا اتهام حق-، فيما لم تأخذ "عدالة" (تعبير مجازي!) المحكمة بعين الاعتبار، الحالة الرديئة التي كانت عليها العبارة وافتقادها لأي من مقومات السلامة، وهذه العوامل الفاضحة والمفضوحة، لا يتحمل مسؤوليتها إلا أصحاب شركة "السلام" المشغلة لهذه العبارة وهذا ما أشارت إليه لجنة التحقيق البرلمانية التي تشكلت عقب الحادث.

إن تحول القتلة إلى أبطال، واستحالة القتلى إلى مجرمين، هي بدعة عربية بإمتياز. وليس في الأمر غرابة، فصاحب الشركة يحمل مسؤولية الغرق إلى الربان الذي غرق مع سفينته متهماً إياه بالإهمال والإدعاء بأنه قادر وحده مع طاقمه على إخماد الحريق الذي نشب في العبارة. وقد يلوم لاحقاً الركاب -الزبائن- أنفسهم لأنهم تستقلوا هذه الباخرة المهترئة وهذا ليس ببعيد عن الخيال العربي. هذه الكارثة الإنسانية، تشبه إلى حد ما، كارثة لبنانية حصلت عام 2003، وهي ما اصطلح على تسميتها فيما بعد بـ" طائرة كوتونو". المثير، من خلال المقارنة، هو التشابه في كل أدوات المجزرة.

سجلت حادثة السقوط هذه أكثر من مئة لبناني في عداد القتلى، وعشرات الجرحى. وكان هؤلاء من المغتربين اللبنانيين العاملين في أفريقيا وكانوا ينون العودة إلى لبنان انطلاقاً من مطار كوتونو في بنين (أفريقيا). وقد حمّل القضاء اللبناني مسؤولية تحطم الطائرة إلى كل من المدير العام لشركة "يو تي آي" احمد درويش الخازم (حكيَّ الكثير عن علاقته بالعدو الإسرائيلي) والمدير المسؤول في الشركة درويش احمد الخازم ومدير التشغيل فيها محمد احمد الخازم ومالك الطائرة الأميركي من اصل فلسطيني عماد سابا وقائدها الليبي نجيب الباروتي. مع العلم أن اسم الخازم وشركته، حاله حال ممدوح إسماعيل، ارتبط ببعض القيادات السياسية اللبنانية النافذة والفاعلة في السلطة، وهو اليوم لا يزال حراً طليقاً خارج البلاد.

إنها المؤامرة. مؤامرة تحاك ضدنا وحدنا، ونحن فقط من يتحمل كوارثها ونتائجها الوخيمة الدموية. الوقت ليس للبكاء والنواح والتحسر، علينا أن نحكي ونسأل ونساءل ونتهم فنقاضي. حرام السكوت عما يجري، فسكوتنا سلاحهم ضدنا. على المصريين، كما اللبنانيين وبقية الشعوب العربية المضطهدة والمنتهكة إنسانيتها، أن يقاضوا ويحاسبوا الدولة ونظامها السياسي ورجاله على إهمالهم في مراقبة وتأمين سلامة انتقال وسفر المواطنين، وعلى حصول الكارثة دون أي سعي جدي لتفاديها، وعلى طمس الحقيقة وتشويهها، وتبرئة الفاعلين لارتباطهم بجهات نافذة داخل أجهزة الدولة. وما الاتجاه نحو مقاضاة ممدوح إسماعيل في محكمة العدل الدولية في "لاهاي" إلا خطوة أولى ضرورية لتأمين حق الناس في العدل والعدالة.

إننا بلا معنى. إن وجودنا كعدمه. إننا أموات بقناع حي. لا دولة تحمينا، لا قانون يحمينا، لا رب يحمينا، إننا نعيش في العراء وبين الوحوش والتنانين. هذه المعادلة ليست جديدة في العالم العربي، وليس الفساد حرفة حديثة الصنع، ولا الاستخفاف وانعدام المبالاة بأرواح الناس فعل حديث العهد. كلها أمور معروفة، وصارت رمزاً لآليات عمل السلطات العربية. لذا فإن الفاجعة ستظل تكبر وتتسع حتى تبتلعنا كلنا، إذا بقينا صامتين..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما آخر التطورات بملف التفاوض على صفقة تبادل الأسرى ووقف إطلا


.. أبرز 3 مسارات لحل أزمة اللاجئين السوريين في لبنان هل تنجح؟




.. جامعة فيرمونت تعلن إلغاء خطاب للسفيرة الأميركية بالأمم المتح


.. مسيرة إسرائيلية توثق عمليات اعتقال وتنكيل بفلسطينيين في مدين




.. لحظة استهداف الاحتلال الإسرائيلي خيام النازحين في رفح بقطاع