الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قدر إمرأة

حنان كوتاري

2008 / 8 / 4
الادب والفن


كانت يدها ترسم بخفتها المعهودة فوق قطع جلدية خطوطا متباينة المقاييس ... و كان فكرها شاردا في اللاشيء ... و لم تكن زميلاتها المجاورات لها في المقعد في أماكنهن ... فقد تحلقن غير بعيد عنها حول "حياة" ... يواسينها و يكفكفن دموعها ...
إنها حكاية نهاية كل شهر ، ما إن تحصل "حياة" على أجرتها الشهرية حتى تجد والدها في انتظارها أمام باب المعمل ... يستحوذ الأب على الأجرة و لا يذر لصاحبتها سوى دراهم معدودة تدفعها بضعة أيام ثمنا لتذاكر الحافلة ثم تقضي باقي أيام الشهر مشيا على الأقدام ... وليت والدها ينفق المال على الأسرة الصغيرة ... لهان المصاب ... إن عرق جبينها عصير يعتصره الأب ليملأ به كؤوسا حمراء تروي ظمأه إلى الفرار ......
و لعلك تتساءل عنها ؟ لماذا ظلت مكانها و لم تلتحق بزميلاتها ...
إنها هكذا دائما ... منعزلة عمن حولها ... منطوية على نفسها ... لا تهتم لشأن من شؤون غيرها، تعد أحاديث زميلاتها ثرثرة تافهة و أحلاما حمقاء حتى رمينها بالقسوة و الأنانية ...
***
عادت الفتيات إلى مقاعدهن .... استرقت النظر إليهن واحدة تلو الأخرى ثم همست إلى نفسها في استهانة: إنك أولى بكلمات المواساة من غيرك... لكل واحدة منهن أسرة تخفف عنها قسوة الحياة أما أنت ....
و ندت عنها ضحكة حزينة حاولت كتمها ... لكن صوت "حياة" خرق شرودها حينما صرخت من خلال دموعها قائلة: متى أتزوج لأرتاح مما أنا فيه ؟ ......
فأطلقت العنان لضحكتها... التفتت الفتيات إليها و حدجنها بنظرات تطفح بالغيظ و الاستغراب
همهمت : الحل رجل ... مسكينة حياة إنها حقا تستحق الرثاء... مادمت تظن أن الحل رجل...
و هاجمتها الذكريات تفوح بالمرارة و الأسى ... لكنها دفعتها عنها بقوة حتى لا تنهار بين يديها فتجر عليها شفقة الأخريات أو سخريتهن ... و شغلت نفسها بما ينتظرها بعد الانصراف من العمل.... لقد ضاعت الأجرة بين البقال و الصيدلية و ديون أخرى صغيرة و مازال صاحب الغرفة ينتظر... فكيف تفر من يده الممدودة لقبض الكراء؟ ... عشية البارحة ظلت تجوب الشوارع إلى أن جن الليل فاستترت بظلامه و تسللت خفية إلى غرفتها ثم تظاهرت بغيابها عنها فلم تشعل ضوء و لم تحدث صوتا و لم تجب طرقاته التي أرعدت بابها ... حتى صوت سعالها كتمته بوسادتها... فهل يدوم فلاحها في خداعه ؟ .... و شعرت بالحنق على مرضها الذي أنهك ميزانيتها و امتص صحتها و أعيا طبيبها حتى سألها ذات مرة مازحا : أكنت تتغذين سما؟
و لم يكن يدري أنه أصاب في وصفه، فمريضته الشابة لم تترك وصفة من تلك الوصفات السحرية التي أهدتها النساء إليها نصائح غالية إلا و جربتها .... حتى درن أذن الحمار توبلت به طعامها ... عل الحياة تدب في أحشائها ... فتحفظ مكوثها في كنف زوج يقيها ذل السؤال... لكن الوصفات خذلتها ... و الأرض البوار لم تنبث زرعا .... حال جفاء القلوب من حولها دون خصبها ... فزفت إلى الدار زوج حسناء ولود ... و أخرجت الزوج العقيم ...
***
توقفت يدها عن الرسم و خنقتها العبرات فأجهشت بالبكاء ... ثم سرعان ما انتابتها نوبة سعال حاد ....
اجتمعت حولها زميلاتها ... أخذت إحداهن تربت على كتفها ... و قدمت لها أخرى منديلا لتمسح دموعها ... ونادت "حياة" : كوب ماء ... أحضرن كوب ماء ...
فجأة خيم الصمت و تركزت الأنظار على المنديل ... ثم شرعت الفتيات في الابتعاد...
و الأصوات تختلط ببعضها البعض : دم ... بصقت دما ... نعم دم لقد رأيته ....
تنهدت في حسرة و هي تقول : افتضح أمري و انتهى كل شيء ، لن يقبلني رب العمل بعد اليوم ....
و غابت عن المعمل ... و لم يعلم أحد عنها شيئا ... سمعن أنها رحلت عن المدينة ...
و سمعن أنها امتهنت الدعارة ... و سمعن أنها نزيلة إحدى المستشفيات الحكومية ....
و سمعن أنها .....
و استأنفت الحياة سيرها ... أفواج من الفتيات تلج المعمل في الصباح الباكر ثم تغادره عند المساء ... باب يفتح ثم يغلق ... و بين البداية و النهاية ... أمنيات و آهات ... و حكايات لا تنتهي عن النقود و الحب و الزواج ... و أيدي ترسم فوق قطع جلدية خطوطا متباينة المقاييس .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان محمد التاجى يتعرض لأزمة صحية ما القصة؟


.. موريتانيا.. جدل حول أنماط جديدة من الغناء والموسيقى في البلا




.. جدل في موريتانيا حول أنماط جديدة من الغناء والموسيقى في البل


.. أون سيت - لقاء مع أبطال فيلم -عالماشي- في العرض الخاص بالفيل




.. الطفل آدم أبهرنا بصوته في الفرنساوي?? شاطر في التمثيل والدرا