الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من يوسف ليوسف .. تلويحة غياب متأخرة

يوسف ليمود

2008 / 8 / 7
الادب والفن


كصبي من الريف، مسكون بمحرك غامض غموض بيوت القرية وظلالها التي تمتزج فيها أطياف الأحياء والأموات والكلاب الأسطورية والقطط ساعات الظهيرة الناعسة، لم يكن هناك ما يركّز كل هذا السحر المبعثر في الشوارع وعلى الأسطح سوى تلك الشاشة العريضة المدهونة بالجير على جدار خرابة واسعة تبعثرت في أرجائها هياكل حديدية لكراسي, ملحومٌ بعضها في بعض أو مفككة بعضها عن البعض، لا ينجو الجالس عليها من جرح أو مزقة أو لطخة وسخ ما، وما كنا لنبالي، إذ كان للخيالات المضيئة المتحركة على ذلك الجدار فعل المنوّم المغناطيسي للحواس، الموقظ المغناطيسي للجمال والخيال، من دون أن يقلل من هذه الروحية غير الواعية هياجُنا الجنسي البازغ، وانتظارنا المتحرّق لمشهد “المعجنة”، أو المعارك التي تنشب بين شِلل الأولاد في محاولة نافدة الصبر لتقليد ضربة قدمٍ طائرة في الهواء من البطل أحمد رمزي، أو تنهيدة فتوَنة من فريد شوقي معقوفة بلكمة يلحس فيها المعلم البلاط… و”ضاعت فلوسك يا صابر”.

على ذلك الحائط المنخور بالشمس عرفت النجوم: المليجي، هند رستم، شكري سرحان، مديحة كامل، يوسف شعبان، كاريوكا، ناهد شريف، العلايلي… الى آخرهم جميعا، بأدوارهم وأقنعتهم المتعددة… إلى أسماء الأفلام التي التصق بعضها بأديم ذاكرتي ولن يخرج إلا مع ذوبانها في السراب: حمام الملاطيلي، الكرنك، السقا مات، بداية ونهاية، القاهرة 30، باب الحديد، الذي لم أنتبه إلى اسم مخرجه وقتها إلا بعد أن ذهب الولد الريفي إلى القاهرة ليدرس ويتسكع ويستكشف ويكفر بكل شيء عدا الفن.

عرفتْ رجلي الطريق إلى شارع “بستان الدكة” الجانبي، وراء عماد الدين حيث سينما كريم 2 الصغيرة. كم مرة ارتقيت درجاتها لأنفصل فجأة عن واقع هلامي باهت إلى ذبذبة الصوت السينمائي التي تتصل بالمنطقة الغامضة المسحورة داخلي، تهيّجها تركيبات الصورة في المشهد والحسّ العام لعالم بديل مكثف مركّز يختصر حياة في زمنِ ساعتين. إلى أن كان أسبوع لأفلام يوسف شاهين، وأغرق ذات يوم من ذلك الأسبوع غرقا في فيلمه “عودة الابن الضال”. ينتهي العرض فأخرج لأحصل على تذكرة جديدة وأعود أتسمّر مكاني. خمس مرات شاهدت الفيلم نفسه في اليوم ذاته. يا لوقعِ كل حُبيبة صوتٍ وكل ذرة مشهدٍ على حواسي يومها، ما السر! ما سر أي عمل فني؟ أهي طاقة العناصر مجتمعة، في الفن الذي ينتجه شخص واحد كحال الرسم مثلا، وبالتالي طاقة العاملين جميعا في فن جماعي كالسينما؟ إن روح صلاح جاهين تمسّد جسد الفيلم الخفي، والمليجي هنا عملاق عبقري وليس الفتوة الشرير الذي عرفته على حائط سينما قريتي الصيفية، وإبرة صوت ماجدة الرومي مافتئت تدور على اسطوانة ذاكرتي حتى يومي هذا “آدي اللي كان وآدي القدر وآدي المصير”. ثمّ يأتي “العصفور” ليفتّح في دماغي رموزا استغلقت عليه في الحدوتة المصرية التي أنجبت جِيلي المنكوس.

وأعشق محسنة توفيق عشقا كعبد ومعبود، لم أر في امرأة قط مثل هذا الجبل المتصدع بالدفق الإنساني ونظرة الدهشة التي عرف شاهين كيف ينتزعها منها انتزاعا، لتسيل إلى الأبد على وهم الشاشة، وتحرّك أو تحرّق قلوب أمثالي، وأرى بأذني لأول مرة تدرّجات صوت الشيخ إمام تحفر أبديتها وتذوب في “مصر يا امه يا بهية”، والمليجي هنا أيضا مرة ثالثة ورابعة وسابعة صورةً لشعبٍ قُهر ومازال يمارَس فيه القهر، حتى يُجر “أبو سويلم” على أرضه من قدميه في “الأرض”. وأرى “الأرض” في غربتي قبل ثلاثة أعوام في قاعة سينما صغيرة بحجم كريم 2، التي كان هو صاحبها حسب ظني، فأبكي الأرض والعصفور الطائر في الفراغ وأتذكر الابن الضال، وأتساءل هل من عودة لابن غير ضال أم هو “المصير” يا عزيزي يوسف؟!

نعم صديقي، أعرف إنه الهمّ، الفني بالأحرى قبل أن يكون الوطني، وشاشة الصورة هي الوطن الإنساني الأرحب للفنان. الهم الذي يرتعش بروح صاحبه الحرة، آبية إلا أن يتحرر المستَعبدون، فكريا وسياسيا وعقائديا وماديا وجغرافيا. الطموح للفجر والنور، ليس بفجاجة المباشَرة في التعبير. تكفي التفاتة في مشهد، مرتبكة أو مربكة. تكفي بحّة صوت في نداء، أو زحزحة لحن عن منظر، أو نكتة في مبولة، أو “شَخرة” اسكندرانية، أو رشاش يكنس وسَخا.

قال صديقي الذي كان يدرس على يديه مرة “إما أن تحبه أو لا. لا وسط”. لكنني أحببته ولم أحبه في الوقت نفسه. الشعور الأخير ربما كان غيرة منه، أو إسقاطا لما لا أحبه في نفسي ذاتها، لا أدري. الأكيد أننا لا نكتشف الحب الخالص “إلا ساعة الفراق”!
يوسف ليمود








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا