الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بعض مفارقات التعامل اللبناني مع الذاكرة

عاصم بدرالدين

2008 / 8 / 8
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


يعيِّب بعض الجمهور اللبناني "المسيس" على الحكومة اللبنانية الجديدة، إسنادها وزارة العدل لوزير ينضوي تحت لواء حزب "القوات اللبنانية" ويركنون في ذلك إلى أن رئيس الحزب، أو الهيئة التنفيذية للحزب سمير جعجع، لديه سوابق إجرامية، وقد ساكن السجن إحدى عشر سنة، بتهمة تفجير كنيسة "سيدة النجاة"، فمن غير المعقول، حسب هؤلاء المعترضين، أن يتحكم سجين سابق و"مجرم حرب" ومحكوم عليه بالمؤبد بوزارة تعتبر النقيض التام للفوضى والميليشياوية وتجسد قيم العدالة والمساواة.
من حيث المبدأ، لا يمكننا أن نعقب سلباً على هؤلاء المعترضين على الحكومة اللبنانية. لكن في حال موافقتنا وتسليمنا بصحة مقولاتهم، فإننا نقع في خطيئة الاجتزاء اللبناني، وهو أحد سمات الثقافة الطائفية أو "سيكولوجية الإنسان الطائفي" حسب نصري الصايغ في كتابه "لست لبنانياً بعد، في مديح الطائفية" (دار الريس 2005) بحيث يرى كل الشوائب والنواقص في الأخر-الخصم، ويتناسى السلبيات التي تكسو تاريخه وتعكر صفو مسيرته. من هنا لو افترضنا أن مبدي هذا الاعتراض، هو من أحد مؤيدي حركة أمل (أو حزب الله، بطريقة ما) فإنه من حق مريدي حزب القوات اللبنانية (السياسي؟!) أن يردوا عليه بالمثل.

بمعنى، أن يتولى قائد إحدى أهم المليشيات المشاركة في الحرب الأهلية اللبنانية وأكبرها ومن أكثرها دموية، رئاسة المجلس النيابي، فإن هذا هو العار بذاته. فمن المعروف أن دور المجلس النيابي مجتمعاً بطبيعة الحال، عكس الطريقة التي يشغله بها رئيسه والتي تشبه العمل الميليشياوي حيث يديره بطريقة فردية وكأنه ملكاً خاصاً لحركة أمل (أو حزب الله.. وطائفتهما!). إن دوره مجتمعاً يختص بمراقبة الحكومة والتشريع، فهو السلطة التشريعية في البلاد، كذلك وهو الأهم، صون الحريات العامة، إذ يمنع على السلطة التنفيذية (الحكومة)، على سبيل المثال، إعلان حالة الطوارئ دون موافقة المجلس النيابي خلال ثمانية أيام، وفي حالة عدم موافقته يلغى المرسوم الحكومي، وذلك لما في حالة الطوارئ من خرق للحريات العامة والفردية (مراقبة الصحف، منع التجول، منع التجمع، تفتيش الأماكن السكنية والمهنية..)، كما هو معلوم، والتي ينص عليها ويضمنها الدستور اللبناني.

بهذا المعنى، يستحيل لعقل بشري رشيد وسليم أن يدمج صفتيّ: قائد الميليشيا وحامي الحريات والدستور، في صورة رجل واحد، وخاصة أن هذا الأخير يشهد تاريخ حركته (أو حزبه أو ميلشياته) على فظاعة أفعاله، من حيث اغتيال الحرية والعقل، عن طريق قتل المفكرين والسياسيين من شيوعيين وبعثيين وغيرهم، فضلاً عن الاقتتال الداخلي، وحروب المخيمات.. إلخ (ونحن نتجاهل عن قصد أحداث بيروت الأخيرة، والتي اضطلعت فيها حركة أمل -ميليشيات دولة الرئيس!- بدور بارز. ولكن نلفت الانتباه إلى ضرورة مساءلته ومحاسبته، في أول جلسة للبرلمان، على دوره الفعال في ضرب الحريات وتهشيمها في الأحداث الأخيرة: إحراق بعض منشآت تلفزيون وجريدة المستقبل، إجبار إذاعة الشرق وأخرى أرمنية على وقف البث، مداهمة مكاتب مجلة الشراع، زد على ذلك إعاقة تحركات المواطنين، وإجبار البعض منهم على هجر منازلهم أو البقاء فيها قسراً وتعطيل الحياة الاقتصادية). وهذا الأمر ينسحب طبعاً، على القوات اللبنانية، وتاريخها الدموي، منذ أيام بشير الجميل (المؤسس) حتى نهاية حرب لبنان. فلا يجب أن ننسى أن التاريخ العملي لتأسيس هذه الميليشيا انطلق خلال معارك مخيم "تل الزعتر" والمجازر التي تكبدها الفلسطينيين جراءها.

ومن المفارقات العجيبة أيضاً في عملية توزيع المراكز -والحصص- داخل الدولة اللبنانية، أن يستلم النائب وليد جنبلاط، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، ملف دفع التعويضات وإعادة المهجرين من الجبل إلى قراهم، عبر ما يسمى "صندوق المهجرين" ووزارتهم. ونستدل من هذا أن الذي يهجرني ويقتلني، يعيدني ويعوض عليّ، أو كالمثل القائل: يقتلني ويسير في جنازتي. ونحن بالطبع لا نحمل مسؤولية حرب الجبل، التي قتل وهجر خلالها ألاف العائلات المسيحية والدرزية، للسيد جنبلاط وحده، بل حكماً هناك طرف أخر كان يتقاتل معه (الجبهة اللبنانية المسيحية).

إنها الاستنسابية الشعبية اللبنانية، ابنت الخطاب الشعبوي الطائفي، حفيدة الذاكرة المثقوبة، الموروثة من الاحتراب الأهلي السابق والمستمر. فعلى جرائم الحرب لم يحاسب أحد إلا شخص واحد (وكان للمحاكمة أبعاد سياسية جلية)، بينما الباقون ظلوا أسياد السلم كما كانوا في الحرب، وهذا -ليس دفاعاً عن جعجع وحزبه- لا يمثل أي نوع من العدالة، بل صلب وذبح لها.. وللتاريخ وذاكرته. التعييب هنا، ليس ذو قيمة تذكر، سوى أنه نوع من المناكفة الطائفية، والفوقية في التعامل مع الأخر، والتغاضي عن الحالات المشابهة -المخزية- الموجودة في "محيطنا" الطائفي والاجتماعي.

نحن مع الحفاظ على الذاكرة، لكي لا يكون النسيان عاملاً مشجعاً على الإعادة، وتكرار الأحداث. لكن "تربية الذاكرة" (إذا أردنا استعمال تعبير سمير قصير في مقدمة كتابه "حرب لبنان" الصادر عن دار النهار 2007) يجب أن تكون مشروطة، بقواعد علمية ومنهجية ووطنية، تلغي الاستنسابية والاجتزاء وتتجاوزهما، لأجل قيام تاريخ فعلي وحقيقي، يستند إلى النقد العقلاني لمرحلة سوداء من تاريخ بلادنا. إذ أننا دون هذه المراجعة البناءة لن نفلح في السير نحو التقدم والتطور، الاجتماعي والسياسي والثقافي. وبما أن المحاسبة أضحت ضرباً خيالياً مستحيل التنفيذ، فإن التصالح مع الذاكرة وتفنيد الذكريات الأليمة والاعتراف بالأخطاء (كما فعلت منظمة التحرير الفلسطينية وبعض الشخصيات المسيحية في مبادرة ممتازة من الطرفين.. مع أننا كنا نمني النفس بأن تكون هذه المصالحة والمصارحة بين اللبنانيين أولاً!) يراكم عوامل مساعدة تساهم في إعادة الوحدة التاريخية للمكونات الاجتماعية التي يتألف منها لبنان، والتي ستنتج حتماً مستقبلاً مشتركاً، للوصول إلى إحكام سيادة الدولة ورفع شأن المواطنة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف يتصرف الألمان عندما يمرضون؟ | يوروماكس


.. لمى الدوري: -العراق يذخر بالمواقع الأثرية، وما تم اكتشافه حت




.. الهدنة في غزة على نار حامية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. مسلسل المانغا - بون- : وحدة تسافر عبر الزمن وتحي الموتى




.. -طبيب العطور- بدبي.. رجل يُعيد رائحة الأحبة الغائبين في قارو