الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معروضات بيت موندريان: الزمان والمكان

خالد السلطاني

2008 / 8 / 8
الادب والفن


نظم متحف "اودغوبغو" Ordrupgaard الواقع في ضواحي شمال العاصمة الدانمركية – كوبنهاغن، مؤخراً، معرضاً استعادياً للفنان الهولندي " بيت موندريان " (1872-1944 ) Piet Mondrian. بعنوان مثير؛ كفنه الذي مانفك يثير جدلا ونقاشا واسعين؛ وهو "بيت موندريان: الطريق نحو الحداثة ". وتشمل المعروضات على لوحات جمعت من متاحف عالمية عديدة وخصوصا من متاحف مدن امستردام ولاهاي وباريس ونيويورك بالاضافة الى لوحات اعارتها مجموعات فنية خاصة للمتحف. واللوحات المعروضة مشغولة بخامات متنوعة كما ان مواضيعها متنوعة ايضا تبين تعارضات مسار تطوره المهني وترصد تنوع مقارباته الفنية التى تعاطى معها في مراحل زمنية شهدت تبدلاته الاسلوبية وتغيير رؤاه الفنية بدءاً من فترته الهولندية والفرنسية مرورا بالانكليزية القصيرة وانتهاءا بالامريكية وتحديدا مرحلته الاخيرة في نيويورك حيث توفي فيها سنة 1944، بعد ان وصلها قبل اربع سنين فقط من وفاته، قادما ( وهاربا ً ) من القارة الاوربية وحروبها المدمرة! .
وبالاضافة الى اللوحات المعروضة، يتعرف زائر المعرض على حياة الفنان اليومية من خلال نموذج "ماكيت" لمشغله وشقته الباريسية، معمول بمقياس واحد الى واحد؛ وفيها يحس الشخص بانه احد " ضيوف " بيت ( بيت ) المرحب بهم ، اذ يتسنى له ان يتابع لوحاته الفنية وهي في طور الاشتغال والاكتمال، ويشاهد اثاث الشقة وادواتها المنزلية التى طالما استخدمها الفنان الهولندي الطليعي ويسمع في الآن ذاته موسيقى " الجاز " التى تصدح من احد اركان الشقة، المغرم بها " موندريان " والتى عنها، عن الموسيقى، قال مرة بانه سوف لن يزور بلده مطلقا طالما ان هولنده " تجرأت " وحظرت موسيقى الجاز في فترة ما في عقدي مابين الحربين !! .
بيت موندريان:
يعرف كثر من محبي ومتابعي منجز الفنان الطليعي بانه ولد عام 1872 في "اميرسفورت" بوسط هولندا ، لكن قد تكون قلة منهم مطلعة بانه ولد باسم آخر، هو: "بيتر موندريآن " Pieter Mondriaan، والاسم الذي سيعرفه العالم به، اتخذه لاحقا عندما بدأ يوقع لوحاته باسم "بيت موندريان” في باريس عام 1912. هو الذي درس الفن اولاً في اكاديمية الفنون في امستردام (1892-94)، بعدها امسى مشاركا منتظماً في عروض دورية بالقاعات الفنية للمدينة الهولندية. وانجز ابان تلك الفترة سلسلة لوحات لمناظر طبيعية مشغولة بالوان ترابية وفقاً للذائقة الفنية السائدة وقتذاك. لكن نقطة التحول كانت مع لوحة " السموات الحمر" الموقعة سنة 1907؛ وفيها يدنو موندريان من الاسلوب التعبيري. واثر تلك اللوحة ينجز بعد عام "الطاحونة الهوائية في ضوء الشمس" (1908) والتى فيها إقتصرعلى استخدام الوان محددة بعينها وهي: الاحمر والازرق والاصفر. وفي اسلوب هذه اللوحة والوانها يستدعي موندريان اسلوب والوان مواطنه فان كوخ ، لكن احد النقاد، يومذاك، رأى في سماءها ذات البقع الصفراء " تماثلات لتجويفات الجبن السويسري!" كناية عن استخفاف مبطن لتلك اللوحة المشهورة المحفوظة بعناية الان في متحف العاصمة الهولندية: لاهاي!.
في ثلاثيته الشهيرة "الارتقاء" ( 1910-11) سعى موندريان الى تحقيق عمل منهجي وفقاً للتعاليم النظرية الخاصة بجمعية " ثيو صوفية" التى انظم اليها في عام 1909. وفيها تبدو كل مرحلة من المراحل الثلاث للتطور الانساني ذات انارة مميزة تشتدّ وتقوى كلما ارتقى التطور تاريخياً. اما لوحة " الطاحونة الحمراء" فتتبدى فيها مسعى الفنان وراء تحديدات قسرية فيما يخص " الفورم" او اللون، وهو واقع تحت تأثيرالتكعيبة. واثناء سفرته الباريسية الاولى 1912، تطلع الى تثبيت رؤاه "التكعيبية" الخاصة به في لوحته "حياة جامدة مع قارورة زنجبيل" (1912) ، والتى فيها تظهر، لاول مرة، الخطوط ، وهي متجه نحو عنصر التكوين الاساسي، وهو ما سوف يؤسس" لموتيف" خاص اتسمت به لوحات الفنان المستقبلية.
في عام 1914 يغادر موندريان باريس عائدا الى وطنه لزيارة والده المريض؛ لكن نشوب الحرب يومها اعاق رجوعه الى العاصمة الفرنسية. ويتعرف وهو في هولندا على الفنان " ليو فان دويسبرغ" L. van Doesburg ، وحولهما التف وقتذاك بعض الفنانين والمعماريين والشعراء الذين دعوا الى " فهم جديد للجمال" وذلك من خلال تقنين الوسائل الفنية. كما انهم نادوا الى عدم تمثيل الطبيعي والواقعي في الفن، مروجين بكثافة توظيف لغة الاشكال الهندسية الصرفة، التى تحضرفيها الخطوط الافقية مع العمودية حضورا بليغأً. اما ما يخص الالوان فقد آثروا استخدامها بصيغتها الاولية، ولكن باقتصار محدد على: الاحمر والازرق والاصفر؛ مع نبذ استخدامات الاسود والرمادي والابيض. ويعود الفضل الى موندريان في نحت مصطلح " اللدائنية الجديدة" Neo-Plasticism واسباغها على تلك المفاهيم؛ المفاهيم التى كرستها دورية " دي ستيل" De Stijl في الخطاب الفني وقتذاك ، هي التى بدأت تصدرفي اكتوبر 1917، والتى لاحقا تسّمت تلك " المجوعة الفنية" الطليعية باسمها.
واثناء عودة موندريان الى باريس في 1919، انهمك الفنان في الاشتغال على اسلوبه التجريدى الخاص، المتمظهر في توظيف تركيبات الخطوط الافقية والعمودية على ارضية فاتحة او ملونة. وفي سلسلة هذه اللوحات التى دعاها " تكوين" ثمة سيادة واضحة لحضورالمربع بابعاد مختلفة، فضلا على حضور الخطوط العمودية والافقية. وبحلول سنة 1925 يقطع موندريان صلته مع مجموعة " دي ستيل" عندما اثار "دويسبرغ" مسألة اعتبار "الوتر" كعنصر اساسي في لغة المجموعة الفنية، معتبرا ذلك بمثابة " ارتداد" عن الافكار السابقة. اما هو، بيت موندريان، فقد انغمس لاحقا في الاشتغال على تكويناته المكررة التى اقتصرت على خطوط متعامدة مع استخدام اشكال هندسية نقية، والتى بها استحق اعتراف العالم الفني بمنجزه الابداعي وقدر كشوفاته في هذا المجال.
الزمان:
مايثيرني في معرص موندريان ليسن اللوحات لذاتها، مع انها تمنحني متعة مشاهدتها،لاول مرة، في نسختها الاصلية؛ ورغم ان لوحاته التجريدية تُطالبني، كمتلقٍ، ان تكون قراءتي لها ومحاولة الغوص فيها ، جزءا اساسيا من "اعمال" تلك اللوحات. ما يثيرني هو " كشوفات" موندريان المرتهنة بتعاقب الازمنة، وصيرورة تلك الكشوفات واهميتها في تغيير الذائقة الفنية وتكريسها لمبادئ الحداثة، الحداثة التى وسمت بتحولاتها ( وقطيعتها ايضاً) اجناس ابداعية مختلفة؛ حاملةً معها ظاهرة تداخل تلك الاجناس فيما بينها، وحاملةً ايضا.. نجاحاتها. فالحدث المرئي في فضاء المعرض ليس عادياً. انه ينبئ بالجديد، ويرهص به. والمتلقي يتابع عن كثب ميلاد ذلك الجديد، ويضحى شاهدا له، راصداً تداعياته الجانبية التى معه، مع ذلك الجديد، تم اجتراح تحولات كبرى في مسارات عديدة لاجناس ابداعية متنوعة، بضمنها طبعا "العمارة"؛ موضوعي الاثير، العمارة الصادمة لشاغليها ومتلقيها بذلك الاختصار المتقشف في لغتها التكوينية والحضور البليغ للهندسية الصافية ، بديلا عن "الضجيج" التفصيلي السابق!.
وتحضر، بالطبع، هنا " فيلا شرويدر"(1924) في ( اوترخت) بهولندا ، للمعمار "غيريبت توماس ريتفيلد" ( 1888-1964)G.T. Rietveld ، تمثيلا وتجسيداً لمبادي مجموعة " دي ستيل"، رغم ان المعمار، شأنه شأن موندريان، سينفصل عن المجموعة لاحقاً؛ لكن تأثيرات ومبادئ ذلك التجمع الطليعي، وتوصياته فيما يخص الكتلة والفراغ، تتبدى واضحة جدا في ذلك المثال، كما تتبدى لدى بيت موندريان، فكلاهما معنيينّ في استيلاد تنويعات مختلفة طبقاً لثيمة مفاهيمية متجانسة، هي ذاتها الثيمة التى جعلت من مقاربة "دي ستيل" لان تكون مقاربة متميزة ومختلفة عن مثيلاتها من المقاربات الاخرى الناشطة في الخطاب الفني وقتذاك. اذ تدرك عمارة "الفيلا" المشهورة ليس بكونها كتلة، وانما باعتبارها فضاءا محاطا؛ فالحجم يتجزأ، هنا، الى اسطح لجدران منفصلة، والتى بدورها تتفكك وتنقسم الى عناصر وفتحات محفورة، تصل الفضاء الداخلي مع العالم الخارجي. وفيها، كما في لوحات موندريان، يحافظ كل عنصر من عناصر المبنى( او اللوحة) على ذاتيته البصرية. والحق، فان عمارة " فيلا شرويدر" بامتلاكها لمثل تلك الخصائص، عُدت من اجمل النماذج السكنية التى انتجتها عمارة الحداثة؛ انها، وفقا لاحد النقاد، المبنى الاجمل والاكمل الذي فيه تجسدت "روح" الحداثة، وقيمها. انها، في هذا المعنى، تفوق حداثة ويناعة كل ما صممه المعماريون الحداثيون في موضوعة " الدارة" السكنية، بضمنها اعمال " لو كوربوزيه" العظيمة، ومن ضمنها " فيلا سافوي" الشهيرة. لكن هذا ليس موضوعنا، فموضوعنا بيت موندريان ؛ الذي يدهشني فيه اصراره المتمظهر في تكرار " موتيفه" المفضل في لوحاته ولا سيما بمرحلتها التجريدية الهندسية، ذلك الاصرار الذي لا يعرف الهوان الساعي وراء تكريس قيمة كشوفاته الفنية المؤسسة لذائقة جمالية جديدة.
يذهلني دأبه المستمر في اظهار قناعاته الفنية والتمسك بها؛ تلك القناعات المتصادية مع (سوبرماتية) " كازمير ماليفتش" في تأكيده، " ان منتهى الجمال في الفن متأتٍ من فكرة الاختزال، قمته التي تكمن في الشكل الهندسي وخصوصا المربع..". بيد ان مهمة اظهار مثل ذلك الاصرارالمثابر، المرسخ لمقاربة فنية جديدة، والمنطوية على قطيعة صارمة تشي، بين ما تشي به، الى أهمية مضافة، اهمية ما يسمى بـ "الطبيعة الثانية للاشياء " بلغة هيغل، والتى بها تدنو تلك الاهمية لتكون صنواً لاهمية الحدث المرئي، ما يضفي على الاخير سمة التأسيس والريادة في آن.

المكان:
ثمة تماثل متسق يتبدى ظاهراً بقوة بين المعروضات وفضاء المكان ، الفضاء الذي ينزع لتشكيل عمارته الخاصة، الطامحة هي الاخرى لتأسيس قطيعتها مع العادي والمألوف . ونحن نشير ،هنا، الى "مكان" العرض في متحف " اوذغوبغو" ، او بالاحرى الى "توسعة" المتحف المصممة من قبل المعمارية العالمية، عراقية الاصل، " زهاء حديد" ( 1950) تنفيذها الذي اكتمل في الفترة الاخيرة (2005)، التوسعة التى تناولنا سابقاً عمارتها بموضوع عنوانه (واقعية الفضاء الافتراضي). لكننا الان نحاول ان ندرك فضائها المميز من خلال حضور موندريان ولوحاته التجريدية الهندسية في تنويعاتها المكررة لموضوعها الرئيس: الخطوط الافقية مع الخطوط الرأسية ، واشكالها الهندسية الملونة بصبغات صافية في مواقع تنشأ من خلال تقاطعات تلك الخطوط.
ثمة، إذن، اتساق متجانس يتأسس بين ثيمة اللوحات المرسومة وطبيعة الفضاء المصمم. اشعر بان موندريان يمكن فهمه اكثر في هذا المكان. لكن ما يثير هو طبيعة المفارقة المتولدة جراء حدث وجود المعروضات في حيّز المعرض؛ المعروضات الحافلة موتيفاتها بالزوايا القائمة، في حين يخلو فضاء القاعة من اي اثر لها ،لاي زاوية قائمة. وهو امر يعني افتراضاً، ظهور احساس بصري غير مريح ناجم عن طبيعة تعاكس الحدثيّن. بيد ان ما نحسه هو بالضد من ذلك تماما. اذ تطغي اجواء الاحساس بالهرموني في فضاء القاعة. ومرد هذا الاحساس، في اعتقادنا، يرجع الى نزعة تجاوز (الحدثى الفني) لاشكال تطبيقات تنويعاته. فكلا الحدثيّن: "المعروضات" و"حيز" العرض، يتوقا معاً الى تأسيس ظاهرة الجديد والطليعي؛ فالاول يسعى الى تمثيل الحداثة ، في حين الثاني ينشد الى تكريس مابعد الحداثة. من هنا تنشأ وحدة الانتماء، وجودها هو الذي يملْ القاعة باحساس الاتساق الذي نشعر به ونحن نتطلع الى لوحات موندريان في الفضاء المصمم من قبل المعمارية المشهورة؛ الفضاء المعتمد على مصفوفة قيم معمارية مهنية لا علاقة لها بالمنظومة الفكرية السابقة. ذلك لان الفضاء المتحقق ينتمي الى هندسية آخرى، هندسية تقبل الانحرافات والتشوهات في المنجز المعماري؛ على عكس " هندسية" موندريان الدقيقة والمنتظمة والواضحة. وتظل، بالطبع، مأثرة بيت موندريان الفنية، تكمن في اشتغاله على " المشاهد" الهندسية التجريدية وتمسكه بها. اذ داوم الفنان وعلى مدى سنين عديدة في اعادة وتكرار "تكوينه" المختزل، والذي وسم منجزه الطليعي بطابع خاص وميزّ كشوفاته الفنية.
على ان المعنى الرمزي الذي تحمله دلالات تلك " التكوينات" تظلّ هي الاخرى مدار اجتهاد وقراءات متنوعة، يسبغ كل مشاهد عليها انطباعاته الخاصة، ويدركها عبر تأويلاته الشخصية. لكنها في كل الاحوال، لا تنوي ان ترضخ للتفسير المباشر او الفهم الاحادي. انها في هذا السياق تتطابق مع مقولة القديس اوغسطين حينما سئل عن الزمن؛ " - ماهو الزمن؟ اذ لم تسألوني ماهو، فاني اعرفه؛ واذ ما سألتموني ماهو، فانني لا اعرفه!". ولعل الثورة التجديدية التى مكنت لوحات موندريان احداثها في انواع متنوعة من النشاط الفني والتصميمي والمعماري: الرفيع منه و"الكيتش" Kitsch ؛ منذ ظهورها في العقد الثاني من القرن الماضي؛ يصلح ان يكون جواباً لذلك المنجز الحصيف، الذي ما فتأ يثير كثيراً من الاحتذاء ويصنف بكونه منبعاً للعديد من الإلهامات!. □□

د. خالد السلطاني
مدرسة العمارة / الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل