الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سينما سورية جديدة (9): رامي فرح: سينما تفضُّ ال «صمت»!.. نحتاج الحكاية لنتحرر منها

بشار إبراهيم

2008 / 8 / 14
الادب والفن


من شجر أخضر كثيف البهاء. من ضوء مندلع بالضياء، ولمعان باهر، تنزلق الكاميرا إلى لون رمادي كالح، يقف على حافة السواد.. نقرات عصبية، ولفتة من نظرات تكاد تنفلت من جمجمة آدمية عمرها دهر، لكنها تنطق بلسان بشر، فتقول: «عمري.. يا تسعة وتسعين، يا مية».. تتساءل، والحياة فيها لا تتجلَّى إلا بنظرات موهنة باقية عبر الزمن..
منذ أيام تركيا، عندما كانت القنيطرة «بسيطة خفيفة»، وقبل أن تصبح أثقل ما يمكن على كاهل الوطن.. ومنذ أن كانت الحياة في القنيطرة قليلاً من الزراعة: «حبة قمح، وحبة شعير، والذرة الصفراء»، وحتى اللحظة التي صارت فيها جرحاً نازفاً في صدر أو خصر الوطن.. ما بين هذا وذاك، يروم فيلم «صمت» للمخرج رامي فرح، فضّ بعض الحكاية، أو كلها، على الأقل لأننا لا يمكن أن نشفى من الحكاية إلا بقولها، ولن نتخلص من القصة إلا بحكايتها!..
سنغتسل من الإثم بالكلمات.. وبالكلمات سوف نتطهر، ونعيد بناء الحكاية.. والجولان الذي مضى على اغتصابه قرابة الأربعين من السنوات، أو يكاد، لن يُستعاد إلا باستعادة الحكاية؛ حكاية فقده، أو ضياعه.. نعم، وفقط.. وبإثارة سؤال: كيف؟.. ولماذا؟.. وحينها سنحتاج الحكاية فقط لنعرف: هل أضعنا الجولان، أم خسرناه، أم فقدناه؟.. وسنحتاج الحكاية ذاتها حتى نستعيد الجولان، أو نحرره..
فيلم «صمت»، المُنتج عام 2006، لصالح «معهد الفيلم العربي»، وهو الفيلم التسجيلي الوثائقي المتوسط الطول (35 دقيقة)، يحاول مقاربة الحكاية الشعبية، لا الحكاية الرسمية.. بل ولا يريد أي مقارنة بينهما. إنه يريد قول الحكاية فقط، سواء جاءت على لسان أبو علي، الرجل الفطري، الغارق في بدائيته، أو على لسان الأستاذ حامد الحلبي، الإعلامي المثفف الأنيق، الذي يعمل في البرامج التعليمية الموجهة لأبنائنا في الجولان..
سوف يستنكف أبو علي عن الإدلاء برأيه، دون أن يعرف أن كاميرا هواة (هوم فيديو) سجَّلت كل ما قاله، ولم يبق للمخرج رامي فرح من خيار سوى الاستفادة من هذه الشهادات، على الرغم من رداءتها الفنية، خاصة مع قوة صلاحياتها المضمونية، على الأقل باعتبارها شهادة رجل طوى قرناً من الزمان، عاشه على إيقاع ما شاهده، وما عرفه، وما سمع عنه، وما اعتقده.. دون أن يأبه للحظة بما تبثه الإذاعات، أو ترسله القنوات التلفزيونية؛ الأرضية منها والفضائية، السورية منها والعربية، وحتى الأجنبية..
أبو علي يمتلك حكايته، ولن يصدق غيرها، مهما حاول أحد ما ثنيه عنها. والآن سيمر على احتلال الجولان، أو فقدانه، أو ضياعه، أربعون عاماً.. الجولان الذي ينساب إلينا عبر أغنيات، بات عنوانها المغني سميح شقير، بعد عمر من إقصاء هذا المغني، وطرده من المحافل العامة، وهو الذي طالما ردَّد أن بينه وبين ناسه «رمية حجر، وجمحة فرس».. والذي أعلن أن الجولان «لا يهون علينا»..
سوف يرتبط الجولان بمفهوم النازحين السوريين، بل والفلسطينيين، أولئك الذين انطلقوا من مجموع مقداره 131 ألف نسمة، عام النكسة 1967، وصاروا بعد شوط من المرارة إلى قرابة 500 ألف نسمة، وفق أقرب الاحصائيات التي يمكن الاعتداد بها، مع مطالع القرن الواحد والعشرين، وموزعين في مختلف المحافظات، محتفظين بخصيصة أنهم مطرودون..
فيلم «صمت» للمخرج رامي فرح، وهو أصلاً واحد من أبناء تلك القرى، يتنكب مهمة نقل الذاكرة للأجيال حتى تبقى حية، بدءاً من ذاكرة المكان نفسه، عندما كانت مدينة القنيطرة تستأثر بثلث سكان الجولان، وكانت هي العنوان، حتى أننا نشاهد الشخصية الرئيسية، الأستاذ حامد، والتي عاشت زمن القنيطرة، تستعيد بناء المكان بتفاصيله التي كانت: هنا كراج سيارات القنيطرة الشام.. سوق الحمّام.. نفوس القنيطرة.. محلات.. كان هذا الشارع رئيسي.. هنا ساحة بانياس.. حسبة أبو ياسين، ودكان الحلاق، و..
تماماً في الوقت الذي يستعيد الفيلم حكاية الزمن، وقصة ما جرى، عبر رجل عمره قرابة مائة سنة. إنه الكهل نفسه، الوعر الملامح، المتهدج الصوت، والذي انفتح الفيلم عليه بقول مترجرج: «عمري.. يا تسعة وتسعين، يا مية».. وما بين التسعة والتسعين، والمائة، يمكن لهذا الرجل أن يتحدث عن ذكرياته حول سقوط القنيطرة.. وعن انهزام الجيش.. وخروج النازحين..
هكذا سنكون في فيلم «صمت» أمام مستويين من الحكاية: المستوى الأول يمثله الأستاذ حامد الحلبي، الذي لن يتوانى عن القول: هذه مدرستي، حتى العام الدراسي 1966- 1967، ويتحدث عن علاقته بالرمل الذي يشعر أنه ينبض بالحياة.. وعن الادارة، والصفوف، حتى لكأنه يسمع ضجيج الطلاب، ويرى آثارهم باقية..
حامد الذي يعرض بعض الوثائق التي يحتفظ بها، مثل الوثيقة الوطنية، وصور مظاهرة انطلقت في الجولان يومذاك لرفض دفع الضريبة، وصور مجموعة من الأسرى في السجون الإسرائيلية، ومجموعة من النساء الجولانيات يتبرعن لدعم التسلح عام 1956، وصوراً من مدرسة في قرية جباتا، وصيد الأسماك من بحيرة طبريا، ومشاهد من بعض القرى الجولانية، مثل: الخشنية.. البطيحة.. بحيرة مسعدة.. زعورة.. عين زيوان.. مجدل شمس.. يطلق السؤال المرير: كيف يمكن أن ننسى الجولان؟.. وينتهي إلى مقولة إن موازين القوة، هي وحدها الكفيلة باسترداد الحقوق إلى أصحابها!..
أما المستوى الثاني، فهو ذاك الذي ينطق به أبو علي متلجلجاً حانقاً، فالإذاعة قالت بسقوط القنيطرة، ولكن إسرائيل لم تحتل القنيطرة إلا بعد أربعة أيام من إذاعة ذاك البلاغ الشهير!.. إنه يتحدث عن الفزع الذي أخذ بلباب الكثيرين، دون أن ينكر أن معركة صارت عند الحميدية، وأن الدبابات كانت على بعضها البعض..
ما بين المستويين، نرى الأستاذ حامد في وادي الصراخ، يتذكر تفاصيل النكسة، وينتهي إلى أن ما حصل غير معقول.. ويتناول أطراف قصص عن النخوات الشعبية، يوم راجت إشاعة مفادها أن إسرائيل دخلت قرية جباتا الزيت، وحصل هتك أعراض، فهرع الناس «منتخين» بالعصي والأسلحة القديمة.. ولكن لم تحصل مقاومة، وانفض الجمع!..
كما نرى أبو علي الذي لا يكف عن ترداد قوله: «الفزع ذبح العالم، يا عمي».. ويستذكر ما مضى من أيام في القنيطرة: «كنا عايشين عيشة ما في منها».. وبين هذين الزمنين، يبدو أن كل ما حصل هو أن «الجيش انسحب»، وقوة النيران كانت هائلة، بالطائرت والدبابات والصواريخ».. فـ «صرنا نهرب»!..
يتعلق الأستاذ حامد بجاكيته، المختبئة منذ عام 1967 في كيس الانتظار، وتخونه العبارات وهو يحاول القول إن التعايش مع الواقع لا يعني القبول به.. ويصعد الفيلم معه إلى ذروة ميلودرامية عندما ينادي على نواف ويوسف، ووالدتهما أخته أم يوسف، ويعلم أن ابنة عمه توفيت، وهو لا يستطيع تقديم العزاء، ولا تلقيه، كما لا يستطيع لقاء أخته..
«في الكرة الأرضية لا يوجد مثل هذا الوضع!.. فمن حق الانسان أن يقابل أخاه وأخته.. ومن حق العائلة أن تجتمع».. هكذا يقول الأستاذ حامد، ولن يجد من مناص في النهاية، سوى ترداد مليء بالعجز وقلة الحيلة والمرارة: «ما معقول.. ما معقول»!..
في فيلم «صمت» للمخرج رامي فرح، هناك الكثير مما هو غير معقول أبداً، وهناك الكثير مما ينبغي أن يُوضع بين يدي العقل والبصيرة لتأمله وإعادة بناء حكاية الجولان، في سياق شرط جرحه التاريخي، وظرف خسارته، ليكون هذا الفيلم واحداً من أهم الأفلام السورية الجديدة، المنسوجة على يد فنان سوري شاب، كان أول أفلامه بعنوان «زمكان»، حققه عام 2004، وهو عبارة عن تجريب بصري (3 دقائق)، وفيلم «نقطة» 2004، (3 دقائق) الروائي التجريبي أيضاً، كما عمل ممثلاً في أفلام «وجوه»، و«خارج الحب»، مع إياس مقداد، و«كيف وشلون» مع سامر برقاوي، و«رتل كامل من الأشجار» مع طلال ديركي.. ولكن هنا، ومع فيلم «صمت»، سوف يحقق المخرج رامي فرح، قفزته التي يُحسد عليها، مستفيداً من تجاربه المتراكمة، ومن انخراطه في «معهد الفيلم العربي»، الذي يبدو أنه مختبر لإنضاج وإطلاق المواهب الكامنة..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. #كريم_عبدالعزيز فظيع في التمثيل.. #دينا_الشربيني: نفسي أمثل


.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع




.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو


.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع




.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا