الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الذرة ... بنك السودان والقرار القاصر

محمد الفاتح عبد الوهاب العتيبي

2008 / 8 / 16
الادارة و الاقتصاد


الدعوة التي أطلقتها "إيغاد" (الصومال وجيبوتي وإثيوبيا وكينيا وأوغندا والسودان، إريتريا التي علقت مشاركتها في أبريل 2007 متهمة الهيئة بدعم إثيوبيا في خلافهما الحدودي) للمجتمع الدولي إلى توفير مساعدات غذائية لسكانها، يجب أن تتعامل معها حكومتنا بالجدية اللازمة. فقد أعلنت الدول الست إثر القمة الثانية عشرة للهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) الالتزام بوضع سياسات تهدف إلى ضمان إنتاج غذائي دائم في مواجهة الارتفاع العالمي لأسعار المواد الغذائية. وعبرت الدول الست في البيان عن أملها في إطلاق عملية وضع صندوق احتياطي إقليمي للحالات الطارئة. هذه القرارات تزامنت مع دعوة مسئول بارز بالبنك الأفريقي للتنمية الذي أعلن أن البنك سينفق مليار دولار لمساعدة الدول الأفريقية على زيادة إنتاج الغذاء والبحوث الزراعية لمواجهة ارتفاع الأسعار العالمية. وحذر أرونما أوتا نائب رئيس البنك في حديث تلفزيوني في زامبيا من أن أزمة الغذاء العالمية تهدد بزيادة معاناة فقراء القارة, وسط تحديات كبيرة بالفعل تشل حركتهم مثل مرض الإيدز والحروب الأهلية، معلنا أن البنك سيركز على تسريع إنتاج الغذاء عن طريق تسهيل شراء الأسمدة والمدخلات الزراعية وتطوير البنية الأساسية.
هذا علي نطاق القارة السمراء، وعلي المستوي العالمي قالت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية في يونيو 2008 الماضي، إن القيود التي تفرضها بعض الدول على صادراتها الغذائية أدت إلى تجويع الشرائح الضعيفة من شعوب العالم، وأذكت جذوة أسعار المواد الغذائية في العالم. ونسبت إلى المدير العام لمنظمة التجارة العالمية باسكال لامي القول "من الواضح أن القيود على الصادرات هي التي أشعلت الأسعار". وطبقا للصحيفة فإن 29 دولة على الأقل وضعت ضوابط صارمة على صادراتها من المواد الغذائية في الأشهر الأخيرة بغية توفير إمدادات كافية منها لمواطنيها بأسعار في متناول اليد. وذكرت الصحيفة أن تلك القيود تجعل من العسير على الدول المستوردة الفقيرة شراء ما تحتاجه من غذاء, وتترك بعض المعوزين ممن يعتمدون على وكالات الإغاثة يتضورون جوعا.
ومن المعلوم أن هناك دول مثل الهند وفيتنام والصين و11 بلدا آخرا قد قيدت أو حظرت تصدير الأرز إلى الخارج, في حين منعت أو أوقفت 15 دولة -بينها باكستان وبوليفيا- صادراتها من القمح، ووضعت أكثر من عشر دول قيودا على تصدير الذرة, وحظرت كازاخستان صادراتها من بذور زهرة الشمس. ومما يزيد الطين بلة أن الجفاف الذي ضرب القطاع الزراعي في أستراليا إلى جانب سلسلة الإضرابات والأزمات الأخرى التي تعاني منها الأرجنتين، كل ذلك جعل العالم يعتمد بصورة متزايدة على حفنة من الدول -مثل تايلند والبرازيل وكندا والولايات المتحدة- ما زالت تصدر الغذاء بكميات كبيرة.
في ظل هذا الواقع طالب بنك السودان البنوك بعدم تمويل تصدير الذرة اعتباراً من من أغسطس 2008م وحتى بداية العام المقبل ووجه في منشور البنوك بعدم تقديم تمويل أو فتح خطاب اعتماد أو تجديد اي خطاب اعتماد صادر من قبل لتصدير الذرة بداية العام 9002م ، وسبب هذا الاجراء الارتفاع الكبير الذي شهدته أسعار الذرة بالأسواق المحلية حيث فاقت اسعاره الـ«200» جنيه للجوال، ويبدو ان البنك المركزي قصد من هذا الإجراء احتواء الارتفاع المتصاعد في أسعار الذرة والذي شكل ضرراً كبيراً على المواطنين، خاصة الفقراء والمعدمين وذوي الدخول المنخفضة.
إن هذا الاجراء لايمكن أن يكون فعالا وذو أثر في الواقع مالم تتبعه إجراءات فورية لأن أسباب الارتفاع الجنوني للاسعار لكل السلع الغذائية وعلي رأسها الذرة، ليس التصدير وحده. وعلي حسب الجهاز المركزى للاحصاء فان عدة سلع من مجموعة الطعام والشراب شهدت ارتفاعاً تصاعديا مخيفا حيث ارتفع الدجاج بنسبة (35%) والذرة الدبر (36%) والذرة الفتريتة (9%) والدخن (6%) والقمح (3.6%) والارز (9%) ولحم البقر (15.6%) ولحم الضان بنسبة (6.5%) والبيض (11%) والجبنة البيضاء (10%).

ولذلك هناك ضرورة قصوى وعاجلة باستصدار قرارات فورية والعمل بصورة أكثر جدية على معالجة الارتفاع الحالي للتضخم عبر سياسات اقتصادية ومالية ونقدية تسهم في كبح جماح التضخم الركودي الذي تعاني منه البلاد، والمتمثل في تراجع الإنتاج والإنتاجية وزيادة في الاسعار بصورة متوالية ومتصاعدة، مؤديا الي العديد من الآثار الخطيرة والسالبة على واقع الحياة السودانية اقتصاديا وماليا واجتماعيا.

أن عملية التصدير العشوائية للذرة من الأسباب التي قادت الي هذا الارتفاع الجنوني للأسعار، لكن السبب الجوهري والأساسي لهذا الارتفاع في الأسعار يرجع إلي ضعف الإنتاج والإنتاجية، وعدم وتوفر إمكانيات التمويل والتخزين والتسويق اللازمة والمناسبة والفعالة. ومرد ذلك الخلل الكبير والبائن في السياسات الاقتصادية الكلية، والتي أهملت القطاع الزراعي المنتج والعائل الأساسي للغالبية العظمي للمواطنين السودانيين، وبالتركيز علي بعض القطاعات الأخري مثل النفط والاتصالات والتي من المفترض أن تكون خادما وعاملا مساعدا للقطاع الأصلي "الزراعة" والفاعل الحقيقي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

فحتي الآن لم تلتزم وزارة المالية بسداد المديونية المستحقة للشركات والمزارعين الذين قاموا بتوريد ذرة للمخزون الاستراتيجي، بالصورة الكافية والمطلوبة، مما دفع الكثير منهم للهروب من الدخول في زراعة الذرة هذا الموسم مما سيلقي بظلاله السالبة علي إنتاجية الموسم القادم وتفاقم وتصاعد الوضع الغذائي. هذا بالإضافة الي فقر المزارع المنتج الحقيقي الذي أرهقته الجبايات والإتاوات الجزافية الظالمة، وأعجزته التكاليف الباهظة للعملية الإنتاجية الزراعية قبل وأثناء وبعد الزراعة، من الاستمرار في زراعة الذرة. وفي هذا الخصوص تغيب السياسات الاقتصادية والمالية الحكومية الرشيدة، التي من المفترض أن تدعم المزارع المنتج من خلال توفير التمويل الميسر وبشروط عادلة ومرضية وبفرص سداد طويلة الامد، ولكن هذا لا يحدث بالرغم من الدعاية المكثفة للتمويل الأصغر والذي أصبح متوفرا لغير المستهدفين به، من الشرائح الفقيرة والمعدمة والتي لا تملك الضمانات التعجيزية التي تطالب بها البنوك والتي لا تتوفر إلا للقادرين وأصحاب الحظوة لدي تلك البنوك. وتتضح جذور الأزمة بغياب السياسات التسويقية الفاعلة، وضعف الأوعية التخزينية المناسبة، خاصة في مواقع الإنتاج مما يجعل المزارع المثقل بالديون إلي بيع إنتاجه بأبخس الأثمان، للتجار والمرابين ثم يعود بعد أيام قلائل لشراء إنتاجه من الاستغلاليين والانتهازيين بأعلى الأسعار، فتدور عجلة الظلم، وتزيد دائرة الفقر وتتسع.

ومن المحزن حقا أن تعالج هذه القضية الهامة من أعلي الجهات المسئولة بالبلاد بنفس الأسلوب القديم الذي يعالج الأمور بدون تعمق وبدون التطرق للأسباب الجوهرية، والاتجاه لتطمين الرأي العام بعدم وجود مشكلة، أو أن المشكلة بسيطة وتحت السيطرة. فقد جاء في الأخبار أن لجنة القطاع الاقتصادي بمجلس الوزراء اطمأنت على الكميات المتوافرة لتغطية احتياجات الاستهلاك المحلي حتى موسم الحصاد القادم!!! وناقش الاجتماع مشكلة ارتفاع أسعار الذرة وبحثت اللجنة مع القائمين على أمر المخزون الاستراتيجي موقف الحبوب بالبلاد حيث أكد مصدر بهيئة المخزون الاستراتيجي أنه سيتم طرح كميات كبيرة من الذرة والحبوب في الولايات المحتاجة لتغطية الاحتياجات المطلوبة والحفاظ على استقرار أسعاره!!!.
مع أن المشكلة الأساسية بالاضافة الي عدم توفر السلع تكمن في ضعف القوة الشرائية نتيجة لضف الدخل والعائد المادي للمنتجين في ظل العطالة والفقر وإرتفاع معدل التضخم، الذي قفز الى (20.1%) لشهر يوليو الماضي مقارنة بـ(16.9%) لشهر يونيو الماضي، وعزا الجهاز المركزي للاحصاء الارتفاع الى الزيادة في اسعار سلع مجموعة الطعام والشراب بلغ (29.4%) مقارنة بـ(24%) لشهر يونيو الماضي.
الحل الناجز لكسر الحلقة الشريرة التي تلف في ردائها القاتم المزارع المنتج الحقيقي، وتقعد به عن الإنتاج، هو وضع القطاع الزراعي كقطاع رائد وفعال في خارطة الاقتصاد القومي، من خلال خطط وسياسات إقتصادية تقوم علي أسس إقتصادية وعلمية سليمة يضعها العلماء والمزارعين والمهتمين بالشأن الزراعي. ويجب أن يبتعد الساسة عن التدخل بقراراتهم السياسية في الشئون الفنية وأن تؤول الأمور الي أصحاب الشأن الفني والعلمي حتي لا تصبح الخطط والسياسات الزراعية المطروحة عبارة عن دعاية سياسية للحكومة أو أحد الأحزاب المشاركة في الحكم كما جري "للنفرة الزراعية" وكما يجري الآن "للنهضة الزراعية" فالنتيجة واحدة رغم إختلاف المسميات. ومن ذلك يتضح أن قرار بنك السودان بوقف التصدير سوف لن يكون مفيدا إذا لم تصدر حزمة قرارات أخري في إتجاه دعم المنتج والمحافظة علي بقاءه في حلبة الانتاج، وهذا يقتضي التغيير الجذري للسياسة الاقتصادية الكلية بالبلاد ووضع القطاع الزراعي في مكانته الريادية الطبيعية علي أن تكون القطاعات الاخري خاصة النفط والاتصالات خادمة له.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موجة الحر في مصر.. ما الأضرار الاقتصادية؟ • فرانس 24


.. الرئيس الفرنسي يحث الاتحاد الأوروبي على تعزيز آليات الدفاع و




.. تقرير أميركي: طموحات تركيا السياسية والاقتصادية في العراق ست


.. إنتاج الكهرباء في الفضاء وإرسالها إلى الأرض.. هل هو الحل لأز




.. خبير اقتصادي: الفترة الحالية والمستقبلية لن يكون هناك مراعي