الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استنساخ العدو

فاطمه قاسم

2008 / 8 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


د.فاطمه قاسم
يرحم الله "فرانز فانون" ذلك الطبيب القادم من جزر المارتينيك، والذي عمل طبيباً مع القوات الفرنسية في الجزائر، وأتاح له عمله ذاك، وقوة ملاحظته، وروحه الإنسانية السامية، أن يسجل أعمق الأفكار والملاحظات عن الاستعمار، الاحتلال، وخاصة ذلك النوع من الاحتلال الإحلالي الاستيطاني، والآثار التدميرية التي يخلّفها ذلك النوع من الاستعمار في النسيج الثقافي والنفسي والاجتماعي للشعب الذي يخضع لهذا النوع من الاستعمار، الاحتلال، لسنوات طويلة، مثلما حدث مع الشعب الجزائري تحت نير الاستعمار الفرنسي، ومثلما حدث مع العديد من الشعوب الأفريقية الآسيوية تحت سطوة الاحتلال الإنجليزي أو الفرنسي.. الخ، ومثلما يحدث مع الشعب الفلسطيني تحت سقف الاحتلال الإسرائيلي.

فرانز فانون:

أجمل ملاحظاته وتجاربه ودراساته العبقرية تلك في كتاب ترجم إلى لغات عديدة في العالم ومنها اللغة العربية، بعنوان "المغتربون في الأرض" ورصد لنا في هذا الكتاب العديد من الملاحظات والنماذج التي تكشف عن حقائق موجعة ومفجعة في آن واحد، وهي أن الشعوب تحت نير هذا الاحتلال، حتى وهي تقاومه ببطولة خارقة، فإن قيم الاحتلال، قيم الطرف الأقوى، الطرف المسيطر، سرعان ما تتسرب إلى عمق ثقافة الشعب المضطهد، فيحاول هذا الشعب أن يقلد أعداؤه، وأن يأخذ معاييره من هؤلاء الأعداء، حتى وهو يقاتلهم بشراسة، ولكنه يقع ضحيتهم دون أن يدري، مثل ذلك الرجل الأسود الذي وهبه الله عينان قويتا الإبصار، ولكنه يضع نظارة طبية لأنه اعتاد لعشرات السنين أن يرى الرجل الأبيض – السيد – يضع هذه النظارات الطبية لخلل في قدرته على الإبصار بطبيعة الحال، وكيف أن الشعوب المضطهدة حتى وهي في حالة قتال وثورة ضد هؤلاء المحتلين فإنها تستخدم معاييرهم ومقاييسهم في توع الطعام والشراب والملبس والسكن وهلم جرا.

ولكن أخطر ما سجله لنا العبقري "فرانز فانون" هو أن الشعوب المقهورة تلجأ إلى استنساخ العدو – الاحتلال – في أشياء أخطر ألف مرّة ومرّة من التقليد في المأكل والملبس وبعض السلوكيات الصغيرة، وإنما في أشياء حميمة أوسع مدى واشد خطورة، مثل إعادة استنساخ العدو في وسائل وأساليب القهر والقمع وكبت الحريات وتشديد قبضة الأمن ضد مواطنيهم أنفسهم، فالسجون تبنى على طريقة المستعمر، وغرف التحقيق ووسائل وأساليب التعذيب هي نفس أساليب المستعمر، والملاحقات والمطاردات وإهدار كرامة الإنسان هي نفسها التي كان يستخدمها العدو والمستعمر نفسه، وعمليات التخويف والترهيب هي نفسها، وهكذا دواليك.

بطبيعة الحال:

فإن الشعوب الحية، لا تقبل أن تصاب بهذا الانحدار الخطير في التعامل مع بعضها بنفس ما كانت تشتكي منه في زمن الاحتلال، أو زمن قبل الاستقلال، وكلما كانت الأحزاب والحركات الثورية أكثر رقياً فإنها تنتبه بقوة حتى لا تجد نفسها تستنسخ العدو، وتعيد إنتاجه، واستحضاره هي بنفسها، وعبر إجراءات تستمر وتتكاثر حتى ليبدو الأمر وكأن العدو، الاحتلال، الذي رحل لأي سبب من الأسباب، قد عاد وحضر ليس بجنوده، ولا دباباته، بل بيد الأجهزة المحلية، الوطنية نفسها، التي عانت طويلاً، واشتكت كثيراً، وبكت دماءً ودموعاً في كل الفصول، حتى إذا من الله عليها بنعمة الاستقلال أو الحرية، أو حتى التخفيف المحدود من وجود العدو، نراها تفعل بنفسها وبشعبها ما كان العدو والمحتل قد فعله بها في أزمنة سابقة.


الشعوب الحيّة،
والحركات والأحزاب الراقية،
تراقب ذلك بانتباه شديد، ويقظة عالية، وبصيرة وطنية مشرقة، حتى لا تجد نفسها متورطة في أن تفعل بنفسها ما فعله العدو وأكثر.

إن الثقافة الوطنية:

يجب أن تقف بكل تجلياتها المتعددة، روحياً، وتراثياً، وقيمياً، وسياسياً، حتى لا يقع الشعب المقهور فريسة لهذه الحالة الشاذة من الالتباس، وهي أننا نناضل ببطولة، ونقدم التضحيات الغالية، ونقدم قوافل الشهداء، للخلاص من نير الاحتلال، ومن جرائمه، ومن عسفه وإرهابه، ثم، وبدون انتباه، وتحت حمّى الشعارات الجوفاء، والخلافات الفارغة، نجد أنفسنا نقلد عدونا في البطش بأنفسنا، ونعمق جراحنا بأيدينا، علماً أن الجرح الذي يسببه العدو قد يشفى بسرعة، لأننا لا نتوقع من العدو غير الأذى، أما الجراح التي يسببها لنا أبناء شعبنا، ذوي القربى، فهي أشد غضاضة على النفس من وقع الحسام المهند، كما قال الشاعر العربي القديم، لأننا لا نتوقع من أنفسنا سوى الرحمة والمحبة والتسامي فوق الجراح.

إن الثقافة الوطنية العميقة هي الضوء الذي يتوهج في أعماقنا ويحمينا من الانزلاق في المزالق الخطيرة، كيف لا.. ونحن أمة أمرها الله سبحانه وتعالى أن تكون أمة وسطاً، حتى لا تقع في المهالك، وحتى لا تفقد موهبة التراحم فتسقط في مستنقعات الحقد والكراهية.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غموض يلف أسباب تحطم مروحية الرئيس الإيراني؟ • فرانس 24


.. التغير المناخي في الشرق الأوسط: إلى أي مدى مرتبط باستثمارات




.. كيف يسمح لمروحية الرئيس الإيراني بالإقلاع ضمن ظروف مناخية صع


.. تحقيق لـCNN يكشف هوية أشخاص هاجموا مخيما داعما للفلسطينيين ف




.. ردود الفعل تتوالى.. تعازى إقليمية ودولية على وفاة الرئيس الإ